والشّر ، كأنّه طير إليه من عشّ الغيب ووكر القدر لمّا كانوا يتيمّنون ويتشاءمون بسنوح الطائر وبروجه ، استعير لما هو سبب الخير والشّر من قدر الله وعمل العبد. وقالوا : إنّ لزومه في عنق الإنسان أنّه لازم له لزوم الطّوق في عنقه ، وأنّه سبب لزينه أو شينه كالقلادة والغلّ.
ثمّ إنّ هذا المعنى الذي ذكرنا للكتاب ، وإن كان هو الظّاهر من الشرع وذهب إليه العلماء ، إلّا أنّ بعضا منهم قد أوّله أيضا على وجه آخر.
قال البيضاويّ في قوله تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١) : «إنّ الكتاب صحيفة عمله أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله ، فإنّ الأفعال الاختياريّة تحدث في النّفس أحوالا ، ولذلك يعيد تكرّرها لها ملكات» (٢) ، انتهى.
وقال صدر الأفاضل في «الشواهد» : «الإشراق التاسع في نشر الكتب والصحائف. كلّ ما يدركه الإنسان بحواسّه يرتفع منها أثر إلى الروح ويجتمع في صحيفة ذاته وخزانة مدركاته ، وهو كتاب منطو اليوم عن مشاهدة الأبصار ، فيكشف له بالموت ما يغيب عنه في حال الحياة ممّا كان مسطورا في كتاب لا يجلّيها إلّا لوقتها ، وقد مرّ أنّ رسوخ الهيئات وتأكّد الصّفات ، وهو المسمّى عند أهل الحكمة بالملكة ، وعند أهل النّبوة والكشف بالملك والشيطان يوجب خلود الثّواب والعقاب ...
فكلّ من فعل مثقال ذرّة من خير أو شرّ يرى أثره مكتوبا في صحيفة ذاته أو صحيفة أعلى منها ، وهو نشر الصّحائف وبسط الكتب ، فإذا حان أن يقع بصره على وجه ذاته عند كشف غطاء ورفع شواغل ما يورده هذه الحواسّ المعبّر عنه بقوله تعالى : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (٣) فيلتفت إلى صحيفة باطنه وصحيفة قلبه ، فمن كان في غفلة عن ذاته وحساب سرّه يقول عند ذلك : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤) ، ومنشأ ذلك كما مرّ مرارا ، أنّ الدّار الآخرة هي دار الحياة
__________________
(١) الإسراء (١٧) : ١٣.
(٢) تفسير البيضاويّ ٣ / ١٩٨ ، وفي لفظه : هي صحيفة عمله ... فإنّ الأعمال ... لذلك يفيد تكريرها ...
(٣) التكوير (٨١) : ١٠.
(٤) الكهف (١٨) : ٤٩.