والإدراك لقوله تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) (١) ، وموادّ أشخاصها هي التّأمّلات الفكريّة والتّصوّرات الوهميّة ، فيتجسّم الأخلاق والنّيّات في الآخرة يوم تبلى السّرائر ، كما يتروّح الأعمال والأفعال في الأولى ، والفعل هاهنا مقدّم على الملكة ، وهناك بالعكس ، قال سبحانه في قصّة ابن نوح عليهالسلام (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (٢) ففي الخبر : «خلق الكافر من ذمّ (ذنب) المؤمن».
وفي كلام فيثاغورس : اعلم أنّك ستعارض لك في أقوالك وأفعالك وأفكارك ، وسيظهر لك من كلّ حركة فكريّة أو قوليّة أو فعليّة صور روحانيّة أو جسمانية ، فإن كانت الحركة غضبيّة أو شهويّة ، صارت مادّة لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاحظة النّور بعد وفاتك ، وإن كانت الحركة عقليّة صارت ملكا تلتذّ بمنادمته في دنياك ، وتهتدي بنوره في أخراك إلى جوار الله وكرامته.
فإذا انقطع الإنسان عن الدّنيا وتجرّد عن مشاعر البدن ، وكشف عنه الغطاء يكون الغيب له شهادة ، والسّر علانية ، والخبر عيانا ، فيكون حديد البصر قارئا لكتاب نفسه ، بقوله تعالى : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٣) وقوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (٤) ، فمن كان من أهل السّعادة وأصحاب اليمين ، وكان معلوماته أمورا مقدّسة ، فقد أوتي كتابه بيمينه من جهة علّيّين ، إنّ كتاب الأبرار لفي علّيّين وما أدراك ما علّيّون ، كتاب مرقوم ، يشهده المقرّبون.
ومن كان من الأشقياء المردودين ، وكان معلوماته مقصورة على الجزئيّات ، فقد أوتي كتابه من جهة سجّين ، إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين ، لكونه من المجرمين المنكوسين ،
__________________
(١) العنكبوت (٢٩) : ٦٤.
(٢) هود (١١) : ٤٦.
(٣) ق (٥٠) : ٢٢.
(٤) الإسراء (١٧) : ١٣ ـ ١٤.