غيره ، لا يشغله عزوجل مخاطبة عن مخاطبة ، يفرغ من حساب الأوّلين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا ، ويخرج الله عزوجل لكلّ إنسان كتابا يلقاه منشورا ينطق عليه بجميع أعماله. لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، فيجعله الله محاسب نفسه والحاكم عليها ، بأن يقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ويختم الله تبارك وتعالى على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم بما كانوا يكسبون ، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء وهو خلقكم أوّل مرّة وإليه ترجعون ، وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، ولكن ظننتم أنّ الله لا يعلم كثيرا ممّا تعملون)) (١) ، انتهى.
وأقول : وأنت تعلم بعد التأمّل في كلام العلماء من أهل الإسلام ، ممّا نقلنا أو لم ننقل ، أن لا خلاف بينهم ، بل لا شكّ في أنّ في يوم القيامة معيارا صحيحا سديدا قويما يعرف به صحّة العمل وفساده ، وصواب الاعتقاد وخطاؤه ، قد عبّر عنه بلسان الشّرع بالميزان كما نطقت به الآيات القرآنيّة ، ودلّت عليه الأحاديث الصحيحة المعتبرة ، إلّا أنّهم اختلفوا في حقيقة ذلك الميزان والمعيار ما هي؟
فمن قال بأنّ المراد منه الميزان الحسّيّ الجسمانيّ الذي له لسان وكفّتان ، فكأنّه قال به نظرا إلى دلالة بعض الأخبار عليه ، كخبر السجلّات الذي نقله البيضاويّ وغيره من الأخبار ، والى أنّ المتبادر من لفظة الميزان والمعنى الحقيقيّ له هو هذا ، فيجب الحمل عليه إذا لم يكن قرينة على خلافه.
ولا إشكال عليه أيضا من جهة أنّ الأعمال والاعتقادات معاني وأعراض ، فكيف يمكن وزنها بذلك الميزان الحسّيّ حتّى يظهر ثقلها أو خفّتها؟ لأنّها من حيث كونها معاني وأعراضا وإن كان لا يمكن وزنها بذلك الميزان الحسّيّ الجسمانيّ ، إلّا أنّها كما دلّ عليه الأخبار الدالّة على تجسيم الأعمال في القيامة تكون أجساما ، إمّا أجساما نورانيّة ، كما للمحسنين ، وإمّا ظلمانيّة كما للمسيئين ، وإذا كانت أجساما فيمكن وزنها بذلك الميزان.
__________________
(١) راجع الاعتقادات للصدوق / ٨٨ ـ ٨٩.