إبطال عدم التناهي فيه كما في زمان الدنيا ، سواء قلنا بجريانها في الأمور المترتّبة المتعاقبة غير المجتمعة أيضا ـ كما هو عند المتكلّمين ـ أو لم نقل به فيها كما هو عند الحكماء. وحيث أخبر المخبر الصادق بالخلود ، وهو ممكن عند العقل كما ذكرنا وجب التّصديق به.
وأمّا بيان رفع التوهّم الثاني ، فهو وإن سبقت منّا إشارة إليه في الفصول والأبواب المتقدّمة ، إلّا أنّا لا نبالي بإعادة الكلام فيه لزيادة التوضيح. فنقول :
اعلم أوّلا أنّ سبب خلود أهل الجنّة في الجنّة ودوام ثوابهم فيها ، إنّما هو دوام ما هو سبب لذلك ، أي دوام ما اكتسبوا في الدّنيا من الاعتقادات الحقّة والمعارف الإلهيّة والعلوم الربّانيّة والإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه وباليوم الآخر. وبالجملة : كلّ ما هو كمال للنفس الناطقة بحسب قوّتها النظريّة وكان راسخا فيها ، وكذا دوام ما اكتسبوا في الدّنيا من الملكات العادلة والأخلاق الفاضلة والهيئات الجميلة ، وبالجملة : كلّ ما هو كمال لها بحسب قوّتها العمليّة وكان ملكة راسخة فيها.
وبيان ذلك أنّ تلك العلوم والاعتقادات لمّا كانت كمالات للنّفس بذاتها ومن مقتضى ذاتها وجوهرها ، وكانت راسخة فيها ، لم تنفكّ عنها ، وكانت باقية ببقاء النّفس التي المفروض بقاؤها أبدا. وكذلك تلك الملكات وإن كانت بدنيّة وحاصلة للنّفس من جهة تكرّر الأفاعيل البدنيّة ، إلّا أنّها أيضا هيئة مناسبة لجوهر النّفس ملائمة لها غير غريبة عن ذاتها. فإذا كانت ملائمة لها وكانت مع ذلك راسخة فيها ، ولم يكن هناك مضادّ لها ولا سبب يزيلها عن جوهر النّفس كما هو المفروض ، كانت هي أيضا دائمة بدوام النّفس لازمة لها باقية معها.
واذا كانت تلك الاعتقادات والملكات الخالدة موجبة لحصول الثّواب كما دلّ عليه الآيات والأخبار ، فحينئذ نقول : لو كان الثّواب عبارة عن تلك العلوم والاعتقادات الحقّة وعن تلك الهيئات والملكات الفاضلة التي تصوّرت بصورة الثواب وتجسّمت بها ، كما هو على القول بتجسيم الأعمال والاعتقادات ، وهو ظاهر كثير من الآيات والأخبار كما تقدّم