العلم ممّا لا يجازف فيما يقول ـ وأظنّه يريد الفارابي ـ قال قولا ممكنا ، وهو أنّ هؤلاء إذا فارقوا البدن ـ وهم بدنيّون لا يعرفون غير البدنيّات وليس لهم تعلّق بما هو أعلى من الأبدان فيشغلهم التعلّق بها عن الأشياء البدنيّة ـ أمكن أنّ تعلّقهم لشوقهم إلى البدن ببعض الأبدان التي من شأنها أن تتعلّق بها الأنفس ، لأنّها طالبة بالطبع ، وهذه ماهيّات ، وهذه الأبدان ليست بأبدان إنسانيّة أو حيوانيّة ، لأنّها لا يتعلّق بها إلّا ما يكون نفسا لها ، فيجوز أن تكون أجراما سماويّة لا أن تصير هذه الأنفس أنفسا لتلك الأجرام ، أو مدبّرة لها ، فإنّ هذا لا يمكن. بل قد تستعمل تلك الأجرام لإمكان التخيّل ، ثمّ تتخيّل الصور التي كانت معتقدة عنده وفي وهمه ، فإن كان اعتقاده في نفسه وأفعاله الخير شاهدت الخيرات الأخرويّة على حسب ما تخيّلتها ، وإلّا فشاهدت العقاب كذلك.
قال : ويجوز أن يكون هذا الجرم متولدا من الهواء والأدخنة. ولا يكون مقارنا لمزاج الجوهر المسمّى روحا الذي لا يشكّ الطبيعيّون أنّ تعلّق النفس به لا بالبدن. فهذا ما ذكره في الكتاب المذكور. ولو لا مخافة التطويل لأوردته بعبارته. والشيخ جوّز بعد ذلك أن يفضي التعلّق المذكور إلى الاستعداد للاتصال المعدّ الذي للعارفين. ولي في أكثر هذه المواضع نظر» (١) انتهى.
وقال أيضا في شرح قوله : «أمّا التناسخ» إلخ بهذه العبارة : «وهذا هو المذهب الثاني ، وقد أورد على إبطاله حجّتين :
إحداهما ـ أن يقال : لمّا ثبت أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب إفاضة وجود النفس من العلل المفارقة ، ثبت أنّ كلّ مزاج بدنيّ يحدث فإنّما يحدث معه نفس لذلك البدن ، فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان كان للبدن المستنسخ نفسان : إحداهما المستنسخة والثانية الحادثة معه ، فكان حينئذ للحيوان الواحد نفسان ، وهذا محال ، لأنّ النفس هي التي تدبّر البدن وتتصرّف فيه ، وكلّ حيوان يشعر بشيء واحد يدبّر بدنه وتصرّف فيه ، فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر الحيوان بها ولا هي بذاتها ولا تتصرّف في البدن ؛ فلا يكون لها علاقة مع
__________________
(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٦ ـ ٣٥٥.