أنّه يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ كلّ لذّة فهو كما للحمار في بطنه وفرجه ، وأنّ المبادي الأولى والملائكة المقرّبين عادمو اللذّة.
وبالجملة ، يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ اللذّات مقصورة على اللذّات الحسّيّة الخسيسة ، وأن ليس في الوجود لذّة عقليّة ، وأنّ الملأ الأعلى ليس لهم لذّة ، فإنّ من يتوهّم ذلك فحاله كحال العنّين والأكمه والأصمّ ، بل كحال الحمار ، حيث أنّه إنّما يجد تلك اللذّة الخسيسة في بطنه وفرجه فقط ولا يشعر بلذّة أخرى أعلى منها عقليّة ، ولم يحصل له ذلك الكمال ، مع أنّه لا نسبة للّذّة العقليّة إلى هذه اللذّة الخسيسة ، فإنّ اللّذات ـ كما ذكره في الأصل الثاني ـ متفاوتة ، واللذّة العقليّة أعلى من الحسّيّة من كلّ وجه كما سيأتي بيانه.
وهذا المطلوب الذي بيّنه الشيخ هنا بعبارة وجيزة ، قد بيّنه في «الإشارات» بكلام أبسط ، قال : «وهم وتنبيه ، إنّه قد سبق إلى الأوهام العامّيّة أنّ اللذّات القويّة المستعلية هي الحسّيّة وأنّ ما عداها لذّات ضعيفة ، وكلّها خيالات غير حقيقيّة ، وقد يمكن أن ينبّه من جملتهم من له تميّز ما ، فيقال له : أليس ألذّ ما تصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات وأمور تجرى مجراها ، وأنتم تعلمون أنّ المتمكّن من غلبة ما ـ ولو في أمر خسيس كالشطرنج والنرد ـ قد يعرض له مطعوم ومنكوح لطالب العفّة والرئاسة مع صحّة جسمه في الغلبة الوهميّة ، وقد يعرض مطعوم ومنكوح لطالب العفّة والرئاسة مع صحّة جسمه في صحّة (حشمة ن د) حسّيّة فيقبض اليد منهما مراعاة للحشمة ، فتكون مراعاة الحشمة آثر وألذّ لا محالة هناك من المنكوح والمطعوم ، وإذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بانعام يصيبون موضعه آثروه على الالتذاذ بمشتهى حيوانيّ متنافس فيه ، وآثروا فيه غيرهم على أنفسهم مسرعين إلى الإنعام به.
وكذلك فإنّ كبير النفس يستصغر الجوع والعطش عند المحافظة على ماء الوجه ، ويستحقر هول الموت ومفاجآت العطب (١) عند مناجزة المبادرين ، وربّما اقتحم (٢) الواحد
__________________
(١) العطب : الهلاك.
(٢) اقتحم : دخل بلا رويّة.