منهم على عدد دهم (١) ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقّعه من لذّة الحمد ولو بعد الموت ، كأنّ ذلك يصل إليه وهو ميّت. فقد بان أنّ اللذّات الباطنة مستعلية على اللذّات الجسميّة ، وليس ذلك في العاقل فقط ، بل وفي العجم من الحيوانات ، فإنّ من كلاب الصيد ما يقبض على الجوع ثمّ يمسكه على صاحبه وربّما حمله إليه ، والمرضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها ، وربّما خاطرت محامية عليه أعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها ، فإذا كانت اللذّات الباطنة أعظم من الظاهرة وإن لم تكن عقليّة ، فما قولك في العقليّة. (٢)
«تذنيب : فلا ينبغي لنا أن نسمع إلى قول من يقول : إنّا لو حصلنا على جملة لا نأكل ولا نشرب ولا ننكح ، فأيّة سعادة تكون لنا؟ والذي يقول هذا ، فيجب أن يبصّر ويقال له : يا مسكين ، لعلّ الحال التي للملائكة وما فوقها ألذّ وأبهج وأنعم من حال الأنعام ، بل كيف يمكن أن يكون لأحدهما إلى الآخر نسبة يعتدّ بها». (٣) انتهى كلامه.
وبالجملة ، فيعلم ممّا ذكره في الكتابين أنّ اللذّات العقليّة أعظم من اللذّات الحسّيّة ، وهو المطلوب.
وما ذكره في الأصل الرابع هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل أيضا ، من التقييد بحصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل ، وتنبيه على فائدة هذا القيد في تعريف اللذّة ، بل تفريع عليه وعلى ما ذكره فيه من التقييد بالشعور أيضا في تعريف اللذّة.
وبالجملة فهو تنبيه على أنّه قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة الكمال والأمر الملائم لها ، إلّا أنّها لا تستلذّه لحصول مانع أو شاغل هناك للنفس ، فتكرهه وتؤثر ضدّه عليه ، مثل كراهيّة
__________________
(١) الدهم : العدد الكثير.
(٢) شرح الإشارات ٣ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، وفيه : إنّه قد سبق إلى ... من له تمييز فيقال ... والنرد ونحوهما ... في صحبة فيقبض اليد ... مناجزة الأقران المبارزين ... الواحد على عدد ... على اللذّات الحسّيّة ... ما تقتنص على الجوع ... والواضعة من الحيوانات ...
(٣) شرح الإشارات ٣ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧.