بيان : لأنّ الأنفس الإنسانيّة وإن كانت حين كونها منغمرة في البدن ، غير مدركة للذّاتها العقليّة وآلامها العقليّة حقّ الإدراك ، إلّا أنّها بعد انفصالها عن البدن ومفارقتها عنه ، تكون مدركة حقّ الإدراك لتلك اللذّات ، ملتذّة بها ، متألّمة بتلك الآلام.
وبيان ذلك في الألم أنّ النفس الإنسانيّة إذا انفصلت عن البدن ، وكانت تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تحصّله وهي بالطبع نازعة إليه ، مشتاقة إليه ، إذ عقلت بالفعل أنّ ذلك الكمال موجود لها ، إلّا أنّ اشتغالها بالبدن ـ كما قلنا ـ قد أنساها ذاتها ومعشوقها ، كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلّل ، وكما تنسي الأمراض الاستلذاذ بالحلو واشتهاءه ، وتميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة كما تقرّر في الأصول المتقدمة ، عرض لها حينئذ من الألم بفقدان ذلك الكمال كفاء ما يعرض من اللذّة العقليّة التي أوجبنا وجودها لها إن كانت لها ، ودلّلنا على عظم منزلتها ، فيكون ذلك الألم هو الشقاوة العقليّة والعقوبة التي لا يعد لها شقاوة حسّيّة كتفريق النار للاتّصال وتبديل الزمهرير للمزاج ، بل أيّة نسبة للنار الروحانيّة التي هي (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) إلى النار الجسمانيّة؟ فيكون مثلنا حينئذ في عدم إدراكنا لذلك الألم الروحانيّ حين كوننا في البدن ، مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف من الأصول ، أو الذي قد عمل فيه نار أو زمهرير ، فمنعت المادّة الملابسة وجه الحسّ عن الشعور به ، فلم يتأذّ ، ثمّ عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم.
وأمّا بيان ذلك في اللذّة ، فلأنّ النفس الإنسانيّة إذا انفصلت عن البدن ، وكانت القوّة العقليّة بلغت من النفس حدّا من الكمال ، يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التامّ الذي لها أن تبلغه ، أي أن تكون بحصول ذلك الكمال لها كاملة بحسب ذاتها كمالا مناسبا لها ومن شأنها أن تبلغه ، بلغته بعد مفارقة البدن وأدركته والتذّت به لذّة عظيمة أعظم من كلّ لذّة حسّيّة. ومثلها في أنّها لا تدرك تلك اللذّة في البدن وتدركها بعد المفارقة عنه ، مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ وعرض لحالته أن لا يشتهيه ، وكان لا يشعر به ، فزال عنه الخدر ، فطالع اللذّة العظيمة دفعة.
ولا سترة في أنّ تلك اللذّة العقليّة الحاصلة للنفس بعد مفارقتها عن البدن ، لذّة لا من