كانت ناشئة عن رأي ذلك الجاحد نفسه ، أو كانت مبنيّة على التقليد لغيره. وما إذا كان الجحود لمحض العناد ، أو طلبا للرئاسة والشهرة ونحو ذلك ، وما إذا كان الجاحد مع اكتسابه للشوق إلى كماله منذ أوّل فطرته واعترافه بإنّيّته ، بحيث يكون له اعتراف بهميّته أيضا في الجملة باطنا ، لكنّه كان جاحدا لماهيّة ذلك الكمال ظاهرا رأسا لا تفصيلا ولا إجمالا ، كما قال تعالى في شأن بعض الجاحدين : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١). أو لم يكن اعتراف بمهيّة أصلا ، كما في صورة الجهل المركب.
وبالجملة ، فالمستفاد من كلامه أنّ كلّ هؤلاء الناقصين من الأصناف المذكورة يتعذّبون دائما بنقصانهم لاشتياقهم إلى الكمال الفائت عنهم ، وأنّه إنّما حصل ذلك الشوق لهم باكتساب نظريّ قاصر عن الوصول إلى المشتاق إليه ، وهو فطانتهم البتراء ، وإنّما حصل القصور لهم من حيث قوّتهم النظريّة ، ومن حيث طروء حالة عليها جعلت قوّتهم النظريّة قاصرة ، وتلك الحالة أوّلا هي في المعرضين هيئة وجوديّة صارفة عن اكتساب الكمال ، وإن لم تكن مضادّة له ، وفي الجاحدين هيئة وجوديّة مضادّة له ، وأمّا في المهملين فلا هذه ولا تلك ، بل هي التكاسل ، سواء اعتبرته أمرا وجوديّا أو أمرا عدميّا.
ثمّ أنّه تستتبع تلك الحالات حالات أخر هي في المعرضين والمهملين حالة الجهل البسيط بالمعلومات الحقّة ، وهي حالة عدميّة تقابل العلم تقابل العدم والملكة ، وفي الجاحدين اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه اعتقادا جازما ، سواء كان مستند إلى شبهة أو تقليد أو عناد أو نحو ذلك ، وهذا هو حالة وجوديّة تقابل العلم تقابل التضادّ ، أي الحالة التي تسمّى جهلا مركّبا ، لأنّها جهل بما في الواقع مع الجهل بأنّه جاهل ، سواء كان الجهل باطنا وظاهرا جميعا كما في بعض الجاحدين ، أو ظاهرا فقط كما في بعضهم ، كما أشرنا إلى ذلك.
ثمّ إنّ أسوأ هؤلاء الأصناف الثلاثة حالا هم الجاحدون ، لما اكتسبوا من هيآت مضادّة للكمال ، سواء كانت تلك الهيئات هيئات أوّليّة أو ثانويّة ، ثمّ المعرضون ، ثمّ
__________________
(١) النمل (٢٧) : ١٤.