بحصول هاتين السعادتين العقليّتين جميعا تحصل السعادة الحقيقيّة التامّة الكاملة ، فإنّها السعادة التي بحصول كلا قسمي كمال النفس جميعا ، وأنّه بحصول واحدة منهما فقط ، وإن كان تحصل السعادة لكنّها تكون غير حقيقيّة وغير تامّة ، فإنّها بحصول أحد قسمي كمالها دون الآخر ، ولا شكّ أنّ ما هو بحصول الجميع أتمّ وأكمل ممّا هو بحصول البعض. فحينئذ فالسعادة الحقيقيّة إنّما هي للكاملين في العلم والعمل ، والمستكملين في القوّة النظريّة والعمليّة جميعا ، دون الكاملين في أحدهما فقط ، فإنّهم ناقصون أيضا باعتبار.
ومنه يعلم حال الشقاوة الحقيقيّة ، أي أنّها تكون للناقصين في العلم والعمل جميعا ، دون الناقصين في أحدهما خاصّة.
ثمّ قدّم مقدّمة تتضمّن معنى إصلاح الجزء العمليّ وإفساده.
وبيانها : أنّ الخلق ملكة تصدر بها من النفس أفعال ما بالسهولة من غير تقدّم رويّة ، وقد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسّط بين الخلقين الضدّين ، كالتوسّط بين البخل والإسراف ، الذي هو الكرم ، لا بأن يفعل أفعال التوسّط دون أن تحصل ملكة التوسّط ، بل مع حصول تلك الملكة للنفس ، ولا يخفى أن ملكة التوسّط كأنّها موجودة للقوى الناطقة وللقوى الحيوانيّة جميعا ، أمّا للقوّة الحيوانيّة ، فبأن يحصل فيها هيئة الإذعان والانقهار والانفعال من القوّة الناطقة بعد أن قويت القوّة الناطقة وحصلت فيها ملكة التوسّط ، وأثّرت هي في القوّة الحيوانيّة وقهرته ، فصارت القوّة الحيوانيّة منقهرة عندها مذعنة لها منفعلة منها.
وأمّا للقوّة الناطقة ، فبأن تقوى هي وتحصل فيها هيئة الاستعلاء على القوّة الحيوانيّة وهيئة الانفعال والإذعان من المبادئ العالية. وهذا كما أنّ ملكة الإفراط والتفريط موجدة للقوّة الناطقة وللقوى الحيوانيّة جميعا ، ولكن بعكس هذه النسبة ، إذ من المعلوم أنّه كما أنّ ملكة التوسط التي يتبعها الخيرات ، وهي أمارة قوّة القوّة الناطقة ، ومقتضى النفس الإنسانيّة التي في جبلّتها الخيرات ، وكذا هي أمارة استعلائها على القوى الحيوانيّة التي في جبلّتها الشرور ، تحدث هي أوّلا في الناطقة ثمّ في الحيوانيّة بانقهارها منها ، كذلك ملكة الإفراط والتفريط التي يتبعها الشرور ، وهي أمارة قوّة القوى الحيوانيّة التي في