جبلّتها الشرور ، وكذا هي أمارة استعلائها على القوّة الناطقة وانقهارها منها تحدث أولا في القوى الحيوانيّة ، ثمّ في الناطقة بإذعانها منها وانقهارها دونها.
وبالجملة ، أنّه من المعلوم أنّ الإفراط والتفريط مقتضيا القوى الحيوانيّة. وأنّه إذا قويت القوى الحيوانيّة وحصلت لها ملكة استعلائية على القوّة الناطقة ، ضعفت الناطقة وانقهرت دونها ، فحدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانيّة وأثر انفعاليّ قد رسخ في النفس الناطقة ، من شأن تلك الهيئة أن تجعل النفس الناطقة قويّة العلاقة مع البدن ، شديدة الانصراف إليه ؛ وذلك مضادّ لجوهر النفس الناطقة مؤلم مؤذ لها ، لأنّ حقيقتها تستدعي أن تكون لها هيئة استعلائية قهريّة على البدن وقواه الحيوانيّة كالقوى الشهوانيّة والغضبيّة مثلا ، فإذا انقهرت منها وانقادت وخدمت إيّاها في تحصيل مآربها الدنيّة الدنيويّة ، كان ذلك مضادّا لجوهرها مؤلما لها وموجبا لحسرتها وشقاوتها.
وأمّا ملكة التوسّط ، فالمراد منها هيئة راسخة شأنها تنزيه النفس الناطقة عن الهيئات الانقياديّة الانقهاريّة من القوى الحيوانيّة ، وكذا شأنها بتقيّة النفس الناطقة على جبلّتها الأصليّة ، مع إفادة هيئة الاستعلاء على القوى الحيوانيّة ، وذلك غير مضادّ لجوهر النفس ، ولا مائل إلى جهة البدن ، بل عن جهته ، فإنّ التوسّط يسلب عنه الطرفين المتضادّين دائما ، بل هو مقتضى جوهرها وحقيقتها كما مرّ.
ثمّ إنّه حيث قرّر هذه المقدّمة ، شرع في بيان كيفيّة حصول السعادة باعتبار صلاح الجزء العمليّ من النفس وحصول الشقاوة باعتبار فساده ، فقال : «ثمّ جوهر النفس الذي ملكة التوسّط من مقتضياتها وملائمة لها وكمال لها من جهة القوّة العمليّة ، إنّما كان البدن هو الذي يغمره ويلهيه ويغفله عن الشوق الذي يخصّه عن طلب الكمال ، وعن الشعور بلذّة الكمال ـ إن حصل له ـ والشعور بألم الكمال إن قصر عنه ، وليس تلك الغفلة بسبب أنّ النفس منطبعة في البدن ، أو منغمسة فيه حتّى ينافي ذلك تجرّدها في ذاتها عن المادّة وتوابعها ، ولكن للعلاقة التي كانت بينهما ، وهي الشوق الجبلّي الذي أودعه الله تعالى في حقيقتها ، والميل الذاتيّ إلى تدبير البدن والاشتغال بآثاره وبما يورده من عوارضه وبما يتقرّر فيها من ملكات مبدؤها البدن ، وسواء كانت ملكة التوسّط أو ملكة الإفراط