والتفريط ، حيث إنّ تلك الملكات كلّها إنّما تحصل بتكرّر أفعال مبدؤها البدن ، فإذا فارقت النفس البدن وفيها الملكة الحاصلة بسبب الاتّصال بالبدن ، أي ملكة الإفراط والتفريط ، حيث إنّها هي الحاصلة بسبب اتّصال النفس بالبدن المائلة لها إلى جهة ، فإنّ ملكة التوسّط وإن كان مبدؤها البدن أيضا ، إلّا أنّها ليست حاصلة لها بسبب الاتّصال به ، ولا مائلة لها إلى جهة ، بل عن جهته كما ذكر.
وبالجملة ، إذا فارقت النفس البدن وفيها تلك الملكة المائلة لها إلى جهة البدن ، أي ملكة الإفراط والتفريط ، سواء كانت تلك الملكة الحاصلة ملكة إفراط وتفريط في كلّ الأفعال ، أو في بعضها دون بعض ، كانت النفس من جهة تلك الملكة الحاصلة في كلّ الأفعال أو بعضها ـ التي هي من آثار الاتّصال بالبدن فيها ـ قريبة الشبه أو قريبة النسبة من حال النفس وهي في البدن ، حيث إنّ الآثار البدنيّة كلّها أو بعضها تكون باقية فيها حينئذ كما كانت قبل المفارقة ، وحيث إنّ تلك الآثار كما كانت شاغلة لها عن الشوق إلى الكمال وعن الشعور بلذّة الكمال قبل المفارقة تكون شاغلة أيضا لها عنه حينئذ ، إلّا أنّ تلك الملكة حيث كانت في معرض الزوال حيث إنّ مبدأها وهو البدن قد هلك وتلاشى وحصل للنفس المفارقة عنه وسببها ، وهو استعلاء القوى الحيوانيّة على النفس قد بطل ، حيث إنّه بتلاشي البدن بطل استعلاؤها وقوّتها ، بل انعدمت أنفسها أيضا ، لكنّ تلك الملكة حينئذ لم تزل بعد بالكلّيّة ، حيث إنّها رسخت في النفس وانطبعت فيها كانطباع الرّين في المرآة الصافية في ذاتها المتدرّنة بالدرن (١) الغريب عن حقيقتها ، ولا يكفي في زوالها بالكلّيّة بطلان مبدئها وانعدام سببها ، بل ينبغي أن يكون هناك مع ذلك تصفية ما وتصقيل لقابلها وهو النفس ، حتّى تنمحي تلك الملكة عنها بالكليّة.
وبالجملة ، حيث كانت تلك الملكة باقية في الجملة ، وكانت في معرض الزوال فهي تزول شيئا فشيئا بقدر استعداد قابلها للصفاء وحصول الصفاء له ، فبأيّ قدر ينقص من تلك الملكة الملهية للنفس عن الشوق إلى كمالها عن النفس تزول غفلتها عن حركة
__________________
(١) الرّين : الطبع والدنس : والدرن : محرّكة : الوسخ.