عن جوهر النفس ، مضادّتين لحقيقتها ، وفي كونهما هيئتين راسختين ، وفي كون مبدئهما الأفعال البدنيّة التي تزول بعد مفارقة النفس عن البدن ، فإنّ الهيئة الثانية أيضا إنّما تحصل إمّا بالإهمال أو بالإعراض أو بالجحود ، وكلّ منها إنّما يحصل بغلبة القوى الحيوانيّة على النفس الناطقة ، وانقهار الناطقة عند الحيوانيّة كما في الهيئة الأولى.
ويمكن الجواب عن هذا الشكّ ، بأنه : لعلّ الفرق بينهما بما أشرنا إليه سابقا ، من أنّ الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء النظريّ ، التي هي سبب قريب للتألّم والتعذّب ، إنّما هي هيئة الجهل البسيط أو الجهل المركّب بالقياس إلى حقائق الأشياء التي كان للنفس الناطقة شوق إلى العلم بها ولم تكتسبه ، إمّا لإعراضه أو لإهماله أو لجحوده ، وتلك الهيئة لا يمكن زوالها عن النفس بعد الموت ، لأنّ زوالها إنّما يكون بحصول العلم النظريّ للنفس بالنسبة إلى حقائق تلك الأشياء التي حصل لها الجهل بها ، وبانقلاب الجهل علما ، وقد عرفت أنّه لا يمكن ذلك ، لأنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير ، والمفروض أنّ النفس فارقت البدن ، فلم يمكن لها اكتساب تلك الملكة ثانيا والاستكمال مرّة أخرى ، مع أنّ المفروض أن ليس حصول هذا العلم ضروريّا حتّى يحصل للنفس ويزول عنها الشقاء ، وإلّا لكان ضروريّا حين كون النفس في البدن أيضا ، والمفروض خلافه. وإذا لم يكن زوال تلك الهيئة الجهليّة التي هي سبب قريب لتألّم النفس بها عن النفس ، فلم يمكن زوال الشقاوة التي بحسبها عنها ، فتكون خالدة. وأيضا إنّ تلك الهيئة الجهليّة ، وإن كان مبدؤها الإهمال والإعراض والجحود ، إلّا أنّ تلك الأفعال ليست أفعالا بدنيّة يمكن زوالها ببطلان البدن ، بل هي أفعال نفسانيّة صدرت عن النفس بذاتها ، وإن كان مبدؤها نوع غلبة للقوى البدنيّة الحيوانيّة على القوّة العقلية الإنسانيّة ، وما تصدر عن النفس بذاتها يكون أثره باقيا فيها ، فلا يكون حينئذ مبدأ تلك الهيئة الجهليّة المؤلمة الموذية أفعالا بدنيّة زائلة بزوال البدن ، حتّى يمكن زوال تلك الهيئة عن النفس.
ويعلم ممّا ذكرنا أنّ تلك الهيئة لا يمكن زوالها لا من جهة القابل لها ، ولا من جهة المبدأ القريب لها ، فتكون باقية في النفس من جهتين. وأمّا المبدأ البعيد لها فهو وإن كان