أن يقال : إن الإنسان كيف التفت إلى أنّ حبة الحنطة إذا وضعت تحت التراب ، وسقيت بالماء ، حينئذ تكبر وتنتج حنطة ، هذا المطلب كيف التفت إليه أول فلّاح في العالم؟. وهذا المطلب لا يظهر بالتأمل والبحث الأصولي ، إذن كيف التفت أول فلّاح إلى هذا المطلب؟. وهنا كيف التفت أول لغوي إلى أنّ الأصوات مجال واسع لتفهيم المعاني ، وقابل لأن يجعل أداة لتفهيم المعاني؟. هذا استبعاد.
هذا الاستبعاد حينئذ بالإمكان أن يجعل شاهدا على أنّ ذلك كان بإلهام منه تعالى ، فكما يقال مثلا في حبة الحنطة : إنه تعالى ألهم الإنسان ، وخلق في نفسه شعورا وخطورا ، بأن هذه الحبة إذا جعلت تحت التراب ، وسقيت بمقدار من الماء معين ، حينئذ يتولد منها حنطة ، كذلك ألهم الإنسان وجعل في ذهنه ، بأن هذه الأصوات تقترن مع هذه المعاني ، قرن في ذهنه صوت (ماء) مع معناه ، وصوت (هواء) مع معناه ، فنشأ عنده دلالة هذه الأصوات على هذه المعاني.
هذا الاستبعاد قد يجعل شاهدا على أنّ الواضع هو الله تعالى.
وهذا الاستبعاد ، يمكن رده على أساس ما أشرنا إليه سابقا ، من أن دلالة الأصوات على المعاني بدأت في حياة الإنسان بلا وعي من قبل الإنسان في البداية ، حيث أن أصوات الزئير ، والنهيق ، والخرير ، وغيرها من الأصوات ، اقترنت في حياة الإنسان مرارا بمعانيها ، حينئذ بمقتضى القانون التكويني الثاني ، صار لها دلالة على تلك المعاني المعنية ، من دون تدخل من قبل الإنسان.
كما إن الإنسان انتبه فجأة ، إلى أنه ، متى ما سمع الزئير يلتفت إلى كلمة (الأسد ، ويتصور الأسد ، لأنه اقترن في ذهنه. إذن فصوت الزئير يسبب تصور الأسد ، فحينما أراد أن يفهم شخصا آخرا معنى الأسد استعمل الزئير ، فلعلّ النكتة التي نبّهته إلى المطلب هو عبارة عن تلك الاقترانات الطبيعية الصدفية التي وقعت في حياته بين أصوات الحيوانات ، واشباهها ، وبين معاني تلك الحيوانات ، ومن هنا التفت إلى أنه بالإمكان أن يدل الصوت على معنى ،