رهين في النار ، والمؤمن لا يكون مرتهنا لقوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر : ٣٨ ـ ٣٩] وقال الواحدي : هذا يعود إلى ذكر أهل النار وهو قول مجاهد أيضا قال الرازي : وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلا بمعنى الفاعل فيكون المعنى كل امرئ راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبدا وإن أساء ففي النار مخلدا ؛ لأنّ في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان ، فإنّ العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه ، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإنّ الله تعالى يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي يبقى مع عمله.
(وَأَمْدَدْناهُمْ) أي : الذين آمنوا والمتقين ومن ألحق بهم من ذرياتهم بما لنا من العظمة (بِفاكِهَةٍ) وقتا بعد وقت زيادة على ما تقدم ، ولما كانت الفاكهة ظاهرة فيما نعرفه في الدنيا وإن كان عيش الجنة بجميع الأشياء تفكها ليس فيه شيء يقصد به حفظ البدن قال تعالى : (وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من أنواع اللحمان والمعنى : زدناهم مأكولا ومشروبا فالمأكول الفاكهة واللحم ، والمشروب الكأس وفي هذا لطيفة : وهي أنه تعالى لما قال (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ونفى النقصان يصدق بحصول المساوي فقال ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بل بالزيادة والإمداد.
وقوله تعالى : (يَتَنازَعُونَ) في موضع نصب على الحال من مفعول أمددناهم ويجوز أن يكون مستأنفا وقوله تعالى : (فِيها) يجوز أن يعود الضمير لشربها ويجوز أن يعود للجنة ومعنى يتنازعون يتعاطون ، ويحتمل أن يقال : التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة وفيه نوع لذة لأنهم يفعلون ذلك هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم (كَأْساً) أي : خمرا من رقة حاشيتها تكاد أن لا ترى في كأسها (لا لَغْوٌ) أي : لا سقط حديث وهو ما لا ينفع من الكلام ولا يضر (فِيها) أي : في تنازعها ولا بسببها لأنها لا تذهب بعقولهم فلا يتكلمون إلا بالحسن الجميل بخلاف المتنادمين في الدنيا على الشراب بسفههم وعربدتهم (وَلا تَأْثِيمٌ) أي : لا يكون منهم ما يؤثمهم وقال الزجاج : لا يجري منهم ما يلغى ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر قال الرازي : ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السكر وقيل : لا يأثمون في شربها ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لغو وتأثيم من غير تنوين ، والباقون بالرفع فيهما مع التنوين.
ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ويعظم أنسها إلا بخدم وسقاة قال تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف (غِلْمانٌ) أي : أرقاء ، ولما كان أحب مال إلى الإنسان ما يختص به قال تعالى : (لَهُمْ) ولم يقل تعالى غلمانهم لئلا يظنّ أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدا في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا ، وأفاد التنكير أنّ كل من دخل الجنة وجد له خدما لم يعرفهم قبل ذلك (كَأَنَّهُمْ) في بياضهم وشدّة صفائهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي : مخزون مصون لم تمسه الأيدي. قال سعيد بن جبير يعني في الصدف لأنه فيها أحسن منه في غيره أو مصون في الجنة لم تغيره العوارض. قال عبد الله بن عمر : ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه ، هذه صفة الخادم وأمّا المخدوم فروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال يا رسول الله : الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم ، قال «فضل المخدوم على الخادم»