زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه وطوارق الحوادث مطبقة به وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله ثم بين تعالى التفاوت بين المنفقين منهم فقال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ) أي : أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما
يقدر عليه (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) أي : الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سببا لظهور الدين الحق (وَقاتَلَ) سعيا في إنفاق نفسه لمن آمن به قبل الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجا وقله الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد الفتح ، فحذف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه ، وفضل الأوّل لما ناله إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر فإنه أوّل من أنفق لم يسبقه في ذلك أحد ، وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا شديدا أشرف منه على الهلاك ، روى محمد بن فضيل عن الكلبي : أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه ، وعن ابن عمر قال : «كنت عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليهالسلام فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها بخلال؟ فقال : أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال : فإنّ الله عزوجل يقول : اقرأ عليهالسلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر : أسخط على ربي إني عن ربي راض» (١)(أُولئِكَ) أي : المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٢) لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال (أَعْظَمُ دَرَجَةً) وتعظيم الدرجة يكون لعظم صاحبها (مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) أي : من بعد الفتح (وَقاتَلُوا) أي : من بعد الفتح (وَكُلًّا) أي : وكل واحد من الفريقين (وَعَدَ اللهُ) أي : الذي له الجلال والإكرام (الْحُسْنى) أي : المثوبة الحسنى وهي : الجنة مع تفاوت الدرجات ، وقرأ ابن عامر : برفع اللام على الابتداء أي : وكل وعده ليطابق ما عطف عليه والباقون بنصبها أي : وعد كلا (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الكمال (بِما تَعْمَلُونَ) أي : تجدّدون عمله على الأوقات (خَبِيرٌ) أي : عالم بباطنه وظاهره علما لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.
تنبيه : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة «أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة» (٣) وقد قال صلىاللهعليهوسلم في مرضه : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» (٤) وقال : «يؤم القوم أقرؤهم
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ١٩٠ ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٢ / ١٠٥ ، والبغوي في تفسيره ٧ / ٣٢ ، وابن كثير في تفسيره ٦ / ١٩٠.
(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٦٧٣ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٦٥٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١ ، ٥٤.
(٣) روي الحديث بلفظ : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أنزلوا الناس منازلهم» ، أخرجه بهذا اللفظ أبو داود حديث ٤٨٤٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٢٦٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٧١٧ ، ١٧١٤٦.
(٤) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦٦٤ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤١٨ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٩٤٠ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٦٧٢ ، والنسائي في الإمامة حديث ٨٣٣ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٢٣٢.