فإنه يزين لكم بغروره التسويف ويقول : إنّ الله غفور رحيم وعفو كريم وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو ذلك فلا يزال حتى يوقع الإنسان فإذا أوقعه واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده (فَالْيَوْمَ) أي : بسبب أفعالكم تلك (لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أي : نوع من أنواع الفداء وهو البدل والعوض للنفس على أي حال كان من قلة أو كثرة لأنّ الإله غني وقد فات محل العمل الذي شرعه لكم لانقياد أنفسكم ، وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية على التأنيث والباقون بالتحتية على التذكير (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه كما سترتموه أنتم لمساواتكم لهم في الكفر ، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافرا في الحقيقة لأنّ المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي : منزلكم ومسكنكم لا مقر لكم غيرها تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات وإضاعة حقوق ذوي الحاجات ، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح ، وورش لا يبدل هذه الهمزة ثم أكد ذلك بقوله تعالى : (هِيَ) أي : لا غيرها (مَوْلاكُمْ) أي : هي أولى بكم وأنشد قول لبيد (١) :
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه |
|
مولى المخافة خلفها وأمامها |
والشاهد في مولى المخافة فمولى بمعنى أولى والفرجان الجانبان وهو الخلف والقدام وهو وصف بقرة وحشية أي : غدت على حالة كلا جانبيها مخوف وحقيقته في الآية محراكم بحاء مهملة وراء أي : مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي : مكان ، كقول القائل : إنه لكريم ، ويجوز أن يراد هي ناصركم ، أي : لا ناصر لكم غيرها ، والمراد : نفي الناصر على البنات ، وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
ولما كان التقدير بئس المولى هي عطف عليه قوله تعالى : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : هذه النار واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ) أي : يحن ويدرك وينتهي إلى الغاية (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان (أَنْ تَخْشَعَ) أي : تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن (قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذبا ويقوى في الدين من كان ضعيفا فيعرض عن الفاني ويقبل على الباقي ولا يطلب لداء دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن ، فقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، وعن ابن مسعود رضى الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين ، وعن الحسن : أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق ، وقيل : كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت ؛ وعن أبي بكر رضى الله عنه : أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم وقال : هكذا كنا حتى
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان لبيد ص ٣١١ ، وإصلاح المنطق ص ٧٧ ، والدرر ٣ / ١١٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٧٠ ، وشرح المفصل ٢ / ١٢٩ ، والكتاب ١ / ٤٠٧ ، ولسان العرب (أمم) ، (كلا) ، (ولي) ، والمقتضب ٤ / ٣٤١ ، وكتاب العين ٨ / ٤٢٩.