قست القلوب وقال الشاعر (١) :
ألم يأن لي يا قلب أن نترك الجهلا |
|
وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا |
وقوله تعالى : (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي : القرآن عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر لأن القرآن جامع للأمرين للذكر والموعظة أو أنه حق نازل من السموات ؛ ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله تعالى ، وقرأ نافع وحفص بتخفيف الزاي والباقون بالتشديد وقوله تعالى : (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) أي : قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى معطوف على تخشع والمراد : النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي : الأجل لطول أعمارهم أو آمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم (فَقَسَتْ) أي : بسبب الطول (قُلُوبُهُمْ) أي : صلبت واعوجت بحيث لا تنفعل بالطاعات والخير فكانوا كل حين في تعنت جديد على أنبيائهم عليهمالسلام يسألونهم المقترحات ، وأما بعد أنبيائهم فابعدوا في القساوة فمالوا إلى دار الكدر وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات ؛ قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل باتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان ؛ وعن أبي موسى الأشعري : أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاقرؤه ولا تطيلوا عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) أخرجته قساوته عن الدين أصلا ورأسا فهم (فاسِقُونَ) أي : عريقون في صفة الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي حدها لهم الكتاب حتى تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ) أي : الملك الأعظم الذي له الكمال كله فلا يعجزه شيء (يُحْيِي) أي : على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه (الْأَرْضَ) أي : بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي : يبسها تمثيل لإحياء الأموات بجميع أجسادهم وإفاضة الأرواح عليها كما فعل بالنبات وكما فعل بالأجسام أول مرة ، ولإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة فاحذروا سطوته واخشوا غضبه وارجوا رحمته ، لإحياء القلوب فإنه قادر على إحيائها بروح الوحي كما أحيا الأرض بروح الماء لتصير بإحيائها بالذكر خاشعة بعد قسوتها كما صارت الأرض رابية بعد خشوعها وموتها.
ولما انكشف الأمر بهذه غاية الانكشاف أنتج قوله تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا) أي : على ما لنا من العظمة (لَكُمُ الْآياتِ) أي : العلامات النيرات (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : لتكونوا عند من يعلم ذلك ويسمعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدائم بالاستمرار
وقرأ : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ) أي : العريقين في هذا الوصف من الرجال (وَالْمُصَّدِّقاتِ) أي : من النساء ، ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق بالإيمان والباقون بالتشديد فيهما من التصدق أدغمت التاء في الصاد أي : الذين تصدقوا وقوله تعالى : (وَأَقْرَضُوا اللهَ) أي : الذي له الكمال كله عطف على معنى الفعل في المصدقين لأنّ اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل : إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا الله (قَرْضاً حَسَناً) أي : بغاية ما يكون من طيب
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.