تعالى بقوله : (آمَنُوا) المنافقين آمنوا بلسانهم ، وقال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم ، وقيل : يا أيها الذين آمنوا بموسى (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي : الطاعة والعفاف عما نهى الله تعالى عنه (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : اقصدوا قصدا يتبعه العمل بأن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية (الَّذِي إِلَيْهِ) خاصة (تُحْشَرُونَ) أي : تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره وهو يوم القيامة ، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير ، لا تخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية.
(إِنَّمَا النَّجْوى) أي : المعهود وهي المنهي عنها (مِنَ الشَّيْطانِ) أي : مبتدئة وممتدّة من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى ، فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالف لأعظم أوليائه (لِيَحْزُنَ) أي : الشيطان (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ليوهمهم أنها لسبب شيء وقع مما يؤذيهم ، والحزن همّ غليظ وتوجع يدق ، يقال : حزنه وأحزنه بمعنى ، قال في القاموس : أو أحزنه جعله حزينا.
وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه ، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن ، والقراءة الأولى أشد في المعنى على ما في القاموس
(وَلَيْسَ) أي : الشيطان أو ما حمل عليه من التناجي (بِضارِّهِمْ) أي : الذين آمنوا (شَيْئاً) من الضرر وإن قلّ (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بمشيئة الملك المحيط علما وقدرة.
فإن قيل : كيف لا يضرّهم ذلك ولا يحزنهم إلا بإذن الله؟ أجيب : بأنهم كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتفاخرهم أنّ غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا فقال تعالى : لا يضرّهم الشيطان والحزن بذلك الموهم إلا بأذن الله تعالى أي : بمشيئته وهو أن يقضي الموت على أقاربهم الغلبة على الغزاة (وَعَلَى اللهِ) أي : الملك الذي لا كفء له لا على أحد غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم ، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها فلا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسرّه ولا يجهره فإنهم توكلوا عليه وفوّضوا أمورهم إليه ، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة ، وأمّا أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة ، روى ابن عمر أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإنّ ذلك يحزنه» (١) وعن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه» (٢) فبين في هذا الحديث غاية المنع وهو أن يجد الثالث من يتحدّث معه كما فعل ابن عمر وذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا فقال له وللأول تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة ، خرجه في الموطأ ونبه على العلة بقوله : من أجل أن يحزنه أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا ، لوجود ذلك المعنى في حقه بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة
__________________
(١) أخرجه مسلم في السلام حديث ٢١٨٤ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٧٧٥ ، والدارمي في الاستئذان حديث ٢٦٥٧.
(٢) انظر الحاشية السابقة.