صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن آخرها أوّلها» (١) أعاذنا الله تعالى ومحبينا من الأهواء المضلة (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي : ضغنا وحسدا وحقدا ، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته وقيدوا بالقلب لأنّ رذائل النفس قل أن تنفك ، وأنها إن كانت مع صحة القلب أو شك أن لا تؤثر (رَبَّنَا) أي : أيها المحسن إلينا بتعليم ما لم نكن نعلم ، وأكدوا إعلاما بأنهم يعتقدون ما يقولون بقولهم : (إِنَّكَ رَؤُفٌ) أي : راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير (رَحِيمٌ) مكرم غاية الإكرام لمن أردت ، ولو لم يكن له وصلة فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن تكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة ، أو لا فنكون من أهل الرحمة.
فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غلّ على أحد من الصحابة فليس ممن عنى الله تعالى بهذه الآية. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بكسر الهمزة ، والباقون بمدها
ولما ذكر حال المؤمنين اتبعهم بذكر حال المنافقين فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أي : تعلم علما هو في غاية الجزم كالمشاهدة يا أعلى الخلق ، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف العالي بأداة الانتهاء فقال تعالى : (إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) أي : أظهروا غير ما أضمروا وبالغوا في إخفاء عقائدهم ، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه ، قالوا : والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله ، وهو استعارة من الضب في نافقائه وقاصعائه وصور حالهم بقوله تعالى : (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم اليهود من بني قريظة والنضير. والإخوان هم الأخوة ، وهي هنا تحتمل وجوها :
أحدها : الأخوة في الآخرة لأنّ اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم.
وثانيها : الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.
وثالثها : الأخوة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلىاللهعليهوسلم فقالوا لليهود : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) أي :
من مخرجّ ما من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) أي : منها (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في خذلانكم (أَحَداً) أي يريد خذلانكم من الرسول والمؤمنين. وأكدوا بقولهم : (أَبَداً) أي : ما دمنا نعيش ، وبمثل هذا العزم يستحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) أي : من أي مقاتل كان يقاتلكم ولم تخرجوا (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي : لنعيننكم ولنقاتلنّ معكم.
ولما كان قولهم هذا كلاما يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكدا مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه بين حاله سبحانه بقوله تعالى : (وَاللهُ) أي : يقولون ذلك والحال أنّ المحيط بكل شيء قدرة وعلما (يَشْهَدُ إِنَّهُمْ) أي : المنافقين (لَكاذِبُونَ) أي : فيما قالوا ووعدوا ، وهذا من أعظم دلائل النبوّة لأنه إخبار بغيب بعيد عن العادة.
ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين بقوله تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجُوا) أي : بنو النضير من أي مخرج كان (لا يَخْرُجُونَ) أي : المنافقون (مَعَهُمْ) أي : حمية لهم لأسباب يعلمها الله تعالى : (وَلَئِنْ قُوتِلُوا) أي : اليهود من أيّ مقاتل كان ، فكيف بأشجع الخلق وأعلمهم صلىاللهعليهوسلم (لا يَنْصُرُونَهُمْ) أي : المنافقون.
ولقد صدق الله تعالى وكذبوا في الأمرين معا القتال والإخراج لا نصروهم ولا خرجوا معهم
__________________
(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ٦١.