والمنافقين يا أعلى الخلق ، أو يا أيها الناظر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسر السين ، والباقون بفتحها (جَمِيعاً) لما هم فيه من اجتماع الأشباح (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي : متفرقة أشدّ افتراقا ، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم ، وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب.
قال القشيري : اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد ، وموجب كل تخاذل ، ومقتض لتجاسر العدو واتفاق القلوب ، والاشتراك في الهمة ، والتساوي في القصد موجب كل ظفر ، وكل سعادة. وقرأ شتى الحسن وحمزة والكسائي بالإمالة محصنة ، وورش بالفتح وبين اللفظين وأبو عمرو بين بين ، والباقون بالفتح ، وهي على وزن فعلى (ذلِكَ) أي : الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يحيل الاجتماع (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ) أي : مع شدتهم (لا يَعْقِلُونَ) فلا دين لهم مثلهم في ترك الإيمان.
(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) أي : بزمن قريب ، وهم كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : بنو قينقاع من أهل دينهم اليهود أظهروا بأسا شديدا عندما قصدهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم في أثر غزوة بدر ، فوعظهم وحذرهم بأس الله تعالى فقالوا : لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم أما والله لو قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فراودوها عن كشف وجهها فأبت ، فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها فلما قامت انكشف سوقها فصاحت ، فغار لها شخص من الصحابة فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها ، فقتلوه فانتقض عهدهم فأنزل الله النبيّ صلىاللهعليهوسلم بساحتهم فأذلهم الله تعالى ، ونزلوا من حصنهم على حكمه صلىاللهعليهوسلم وقد كانوا حلفاء ابن أبي ، ولم يغن عنهم شيئا غير أنه سأل النبيّ صلىاللهعليهوسلم في أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم ، فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء. (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي : عقوبته في الدنيا من القتل وغيره (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم في الآخرة.
مثلهم أيضا في سماعهم من المنافقين وتخلفهم عنهم (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي : البعيد من كل خير لبعده من الله تعالى المحترق بعذابه ، والشيطان هنا مثل المنافقين (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ) وهو هنا مثل اليهود (اكْفُرْ) أي : بالله بما زين له ووسوس إليه من اتباعه الشهوات القائم مقام الأمر
(فَلَمَّا كَفَرَ) أي : أوجد الإنسان الكفر على أيّ وجه. ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه. (قالَ) أي : الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) أي : ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلا ظنا منه أنّ هذه البراءة تنفعه شيئا مما استوجبه المأمور بقبوله لآمره ، وذلك مثل ضربه الله تعالى للمنافقين واليهود في انخذالهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف ولم يقل وكمثل الشيطان لأنّ حذف العطف كثير. كقولك : أنت عاقل ، أنت كريم ، أنت عالم ، وقوله (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) كالبيان لقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) روي عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم «أنّ الإنسان الذي قال له الشيطان راهب نزلت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها ، فزين له الشيطان فوطئها فحملت ، ثم قتلها خوفا من أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها ، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشيطان ، فوعده إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه» (١) وروى عطاء
__________________
(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ٣٧.