(وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة التامّة (عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم لا يخفى عليه شيء (حَكِيمٌ) أي : فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الإحكام ، فلا يستطيع أحد نقض شيء منها.
روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله تعالى ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي : واحدة فأكثر منهن ، أو شيء من مهورهن بالذهاب (إِلَى الْكُفَّارِ) مرتدات (فَعاقَبْتُمْ) فغزوتم وغنمتم من أموال الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلا عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم ظلما (فَآتُوا) أي : فاحضروا وأعطوا من مهر المهاجرة (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) أي : منكم من الغنيمة (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي : لفواته عليهم من جهة الكفار. روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت : حكم الله تعالى بينهم فقال جلّ ثناؤه (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) فكتب إليهم المسلمون قد حكم الله تعالى بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا صداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها ، فكتبوا أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) الآية. وقال ابن عباس : في قوله تعالى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم على بعض. قال الزهري : ولو لا العهد لأمسك النساء ولم يرد عليهم صداقا ، وقال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وقالا : هي فيمن بيننا وبينه عهد ، وقالا : فمعنى (فَعاقَبْتُمْ) فاقتصصتم (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي : من المهور. وقال ابن عباس : معنى الآية إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري : يعطي من مال الفيء ، وعنه يعطى من صداق من لحق بها.
تنبيه : محصل مذهب الشافعي في هذه الآية : أنّ الهدنة لو عقدت بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتدا صح ، ولزمهم الوفاء به سواء أكان رجلا أو امرأة ، حرّا أو رقيقا ، فإن امتنعوا من ردّه فناقضون للعهد لمخالفتهم الشرط ، أو عقدت على أن لا يردوه جاز ، ولو كان المرتدّ امرأة فلا يلزمهم ردّه لأنه صلىاللهعليهوسلم شرط ذلك في مهادنة قريش ، حيث قال لسهل بن عمرو وقد جاء رسولا منهم «من جاءنا منكم رددناه ، ومن جاءكم منا فسحقا سحقا» (١) ومثله ما لو أطلق العقد كما فهم بالأولى ، ويغرمون فيهما مهر المرتدّة. فإن قيل : لم غرموا مهر المرتدّة ، ولم نغرم نحن مهر المسلمة على ما تقدم من الخلاف؟ أجيب : بأنهم قد فوتوا عليه الاستتابة الواجبة علينا ، وأيضا المانع جاء من جهتها ، والزوج غير متمكن منها بخلاف المسلمة الزوج متمكن منها بالإسلام ، وكذا يغرمون قيمة رقيق ارتدّ دون الحرّ ، فإن عاد الرقيق المرتد إلينا بعد أخذنا قيمته رددناها عليهم.
بخلاف نظيره في المهر لأنّ الرقيق بدفع القيمة يصير ملكا لهم ، والنساء لا يصرن زوجات.
فإن قيل : كونه يصير ملكا لهم مبنى على جواز بيع المرتد للكافر ، والصحيح خلافه.
__________________
(١) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ١٧٨٤ ، بلفظ : اشترطوا على النبي صلىاللهعليهوسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقالوا : يا رسول الله! أنكتب هذا؟ قال : «نعم إنه من ذهب منكم إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم ، سيجعل الله له فرجا ومخرجا».