بذلك خصوصية مبتدأة (مِنْ دُونِ) أي : أدنى رتبة من رتب (النَّاسِ) فلم تنفذ الولاية ، وتلك الرتبة في الدنيا إلى أحد منهم غيركم بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لا سيما الأميين (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وأخبروا عن أنفسكم بذلك للنقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء (إِنْ كُنْتُمْ) أي : كونا راسخا (صادِقِينَ) أي : غريقين عند أنفسكم في الصدق ، فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب ، ومن المقطوع به أن من كان في كدر وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر تمنى النقلة إلى وليه. روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال لهم «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منهم إلا غص بريقه» (١) فلم يقلها منهم أحد علما منهم بصدقه صلىاللهعليهوسلم ، فلم يقولوا ولم يؤمنوا عنادا منهم.
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يتمنونه في المستقبل أيضا بقوله تعالى : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) أي : في المستقبل (أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي التي أحاطت به فلم تدع لهم حظا في الآخرة.
تنبيه : قال تعالى هنا : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) وفي البقرة (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) [البقرة : ٩٥] قال الزمخشري : لا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في لن تأكيدا وتشديدا ليس في لا فأتى مرة بلفظ التأكيد (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ومرة بغير لفظه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) قال أبو حيان : وهذا رجوع منه عن مذهبه وهو أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة ، وهي أنها لا تقتضيه. قال بعضهم : وليس فيه رجوع ، غاية ما فيه أنه سكت عنه ، وتشريكه بين لا ولن في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص لن بمعنى آخر ا. ه. ودعواهم الولاية إلى التوسل إلى الجنة لا يلزم منها الاختصاص بالنعم بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية بل البر والفاجر مشتركون فيها. (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلما (عَلِيمٌ) بالغ العلم محيط بهم هكذا كان الأصل ولكنه تعالى قال : (بِالظَّالِمِينَ) تعميما وتعليقا بالوصف لا بالذات ، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم ، فهو مجازيهم على ظلمهم.
(قُلْ) أي : لهؤلاء يا أشرف الرسل (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) بالكف عن التمني (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي : لا تفوتونه لا حق بكم.
تنبيه : في هذه الفاء وجهان : أحدهما : إنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط ، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك. قال الزجاج : لا يقال : إن زيدا فمنطلق ، وههنا قال : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لما في معنى الذي من الشرط أو الجزاء ، أي : إن فررتم منه فإنه ملاقيكم ، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه. الثاني : إنها مزيدة محضة لا للتضمن المذكور.
ولما كان الحبس في البرزخ أمرا لا بد منه مهولا نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال تعالى : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) أي : السر (وَالشَّهادَةِ) أي : العلانية ، أو كل ما غاب عن الخلق ، وكل ما شوهد (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي : يخبركم إخبارا عظيما مستقصى مستوفى (بِما كُنْتُمْ) أي :
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١١٧.