الحدود عسر الله تعالى عليه أموره : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي : يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجادا مستمرا ليجعل بينهم وبين سخطه وقاية من طاعته ، اجتلابا للمأمور واجتنابا للمنهي. (يَجْعَلْ لَهُ) أي : يوجد إيجادا مستمرا باستمرار التقوى ، إن الله لا يمل حتى تملوا (مِنْ أَمْرِهِ) أي : كله في النكاح وغيره (يُسْراً) أي : سهولة وفرجا وخيرا في الدارين بالدفع والنفع ، وذلك أعظم من مطلق الخروج المتقدم في الآية الأولى ، وقال مقاتل : ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه لطاعته.
(ذلِكَ) أي : الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب (أَمْرُ اللهِ) أي : الملك الأعلى الذي له الكمال كله (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) وبينه لكم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي : الذي لا أمر لأحد معه في أحكامه فيراعي حقوقها (يُكَفِّرْ) أي : يغط تغطية عظيمة (عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) ليتخلى عن المبعدات ، فإن الحسنات يذهبن السيئات (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) بأن يبدل سيئاته حسنات ، ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفة فيتحلى بالقربات ، وهذا أعظم من مطلق اليسر المتقدم.
(أَسْكِنُوهُنَ) وقال الرازي : أسكنوهن وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل : أسكنوهن.
وقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) فيه وجهان : أحدهما : أن من للتبعيض ، قال الزمخشري : مبعضها محذوف ، معناه : أسكنوهن مكانا من حيث سكنتم ، أي : بعض مكان سكناكم كقوله تعالى : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] أي : بعض أبصارهم. قال قتادة : إن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه. قال الرازي : وقال الكسائي : من صلة ، والمعنى : اسكنوهن حيث سكنتم. والثاني : أنها لابتداء الغاية ، قاله الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء : والمعنى : تسببوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم ، ودل عليه قوله تعالى : (مِنْ وُجْدِكُمْ) أي : من وسعكم ، أي : ما تطيقونه وفي إعرابه وجهان : أحدهما : أنه عطف بيان لقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) وإليه ذهب الزمخشري وتبعه البيضاوي. قال ابن عادل : أظهرهما أنه بدل من قوله (مِنْ حَيْثُ) بتكرار العامل ، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل : أسكنوهن من وسعكم.
(وَلا تُضارُّوهُنَ) أي : حال السكنى في المساكن ولا في غيره (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) حتى تلجؤهن إلى الخروج (وَإِنْ كُنَ) أي : المطلقات (أُولاتِ حَمْلٍ) أي : من الأزواج من طلاق بائن أو رجعي (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) وإن مضت الأشهر (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فيخرجن من العدة ، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات البوائن والأحاديث تؤيده.
قال القرطبي : اختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال : فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها ، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة ، ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور لا نفقة لها ولا سكنى ، لحديث فاطمة بنت قيس قالت : «دخلت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعي أخو زوجي ، فقلت : إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة ، قال : بل لك السكنى والنفقة ، فقال : إن زوجها طلقها ثلاثا فقال صلىاللهعليهوسلم : إنما السكنى والنفقة لمن له عليها رجعة» (١) فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك فإن أصحاب عبد الله يقولون :
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤١٦ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٤٧٣ ، ٤٧٤ ، والدارقطني في سننه ٤ / ٢٢.