تَعْلَمُونَ) أي : لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت.
ولما كان عليهالسلام أطول الأنبياء عمرا وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغيانا وكفرا (قالَ) مناديا لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره : (رَبِ) أي : يا سيدي وخالقي (إِنِّي دَعَوْتُ) أي : أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة (قَوْمِي) أي : الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني ، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون (لَيْلاً وَنَهاراً) أي : دائما متصلا لا أفتر عن ذلك. وقيل : معناه سرا وجهرا. (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي) أي : شيئا من أحوالهم التي كانوا عليها (إِلَّا فِراراً) أي : بعدا وإعراضا عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء ، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد.
(وَإِنِّي كُلَّما) أي : على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات (دَعَوْتُهُمْ) أي : إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي : ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محوا بالغا ، فلا يبقى لشيء من ذلك عين ولا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ) كراهة منهم واحتقارا للداعي (فِي آذانِهِمْ) حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء ، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك ، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي : أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى ، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائما. (وَأَصَرُّوا) أي : أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة ، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها (وَاسْتَكْبَرُوا) أي : أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله : (اسْتِكْباراً) تنبيها على أن فعلهم منابذ للحكمة ، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحا عليهالسلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهرا بتعطيل الأسماع والأبصار وباطنا بالإصرار والاستكبار.
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي : معلنا بالدعاء ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بأعلى صوتي.
(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) أي : كررت لهم الدعاء معلنا ، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد الرجل بعد الرجل ، أكلمه سرا بيني وبينه ، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.
(فَقُلْتُ) أي : في دعائي لهم (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي : اطلبوا من المحسن إليكم المبدع لكم المدبر لأموركم أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها بأن تؤمنوا بالله وتتقوه (إِنَّهُ كانَ) أي : أزلا وأبدا ودائما سرمدا (غَفَّاراً) أي : متصفا بصفة الستر على من رجع إليه.
(يُرْسِلِ السَّماءَ) أي : المظلة لأن المطر منها ، ويجوز أن يراد السحاب والمطر (عَلَيْكُمْ مِدْراراً.)
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي : ويكثر أموالكم وأولادكم ، وذلك أن قوم نوح عليهالسلام