(وَإِذَا الْجِبالُ) أي : على صلابتها (نُسِفَتْ) أي : ذهب بها كلها بسرعة من نسفت الشيء : إذا اختطفته ، أو نسفت كالحب إذا نسف بالمنسف ، ونحوه (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) [الواقعة : ٥](وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمل : ١٤].
(وَإِذَا الرُّسُلُ) أي : الذين أنذروا الناس ذلك اليوم فكذبوا (أُقِّتَتْ) قال مجاهد والزجاج : المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم ، أي : جمعت لميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة ، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه ، فالمعنى : جعل لها وقت أجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : ١٠٩]. وقرأ أبو عمرو بواو مضمومة والباقون بهمزة مضمومة وهما لغتان ، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم : وكدت وأكدت.
وقوله تعالى : (لِأَيِّ يَوْمٍ) أي : عظيم متعلق بقوله تعالى : (أُجِّلَتْ) وهذه الجملة معمولة لقول مضمر أي : يقال لأي يوم أجلت ، وهذا القول المضمر يجوز أن يكون جوابا لإذا وأن يكون حالا من مرفوع (أُقِّتَتْ) أي : مقولا فيها لأي يوم أجلت أي : أخرت ، وهذا تعظيم لذلك اليوم وتعجيب له وقوله تعالى : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيان ليوم التأجيل. وقيل : اللام بمعنى إلى ، ذكره مكي. قال ابن عباس : يوم فصل الرحمن بين الخلائق كقوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الدخان : ٤٠].
ثم أتبع هذا التعظيم تعظيما آخر بقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله في شدّته ومهابته ، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بين بين والباقون بالفتح.
ثم أتبعه تهويلا ثالثا بقوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ يكون يوم الفصل (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بذلك ، قال القرطبي : ويل عذاب وخزي لمن كذب بالله تعالى وبرسله وكتبه وبيوم الفصل ، وهو وعيد وكرّره في هذه السورة عند كل آية كأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم ، فإنّ لكل مكذب بشيء عذابا سوى عذاب تكذيبه بشيء آخر ، ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه لغيره ؛ لأنه أقبح في تعظيمه وأعظم في الردّ على الله تعالى ، وإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك وعلى قدر وفاقه ، وهو قوله تعالى : (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٦]. وقيل : كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد ، وروي عن النعمان بن بشير قال : ويل واد في جهنم فيه ألوان العذاب ، وقاله ابن عباس وغيره ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «عرضت عليّ جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل» (١) ، وروي أيضا أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم ، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض ، وقد علم العباد في الدنيا أنّ شرّ المواضع ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات والجيف وماء الحمامات ، فذكر أنّ الوادي مستنقع صديد أهل الكفر والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتنا.
تنبيه : ويل مبتدأ ، وسوّغ الابتداء به الدعاء ، ويومئذ ظرف للويل وللمكذبين خبره. وقال الزمخشري : فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ؟ قلت : هو في أصله مصدر منصوب ساد مسدّ فعله
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ١٥٨.