لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤] واعترض بأنّ الذي ذكره ليس من المسوّغات التي ذكرها النحويون ، وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره.
(أَلَمْ نُهْلِكِ) أي : بما لنا من العظمة (الْأَوَّلِينَ) من لدن آدم عليهالسلام إلى زمن محمد صلىاللهعليهوسلم كقوم نوح وعاد وثمود بتكذيبهم أي : أهلكناهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي : ممن كذبوا ككفار مكة فنهلكهم كما أهلكنا الأوّلين ونسلك بهم سبيلهم ؛ لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم.
(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الفعل الشنيع (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي : بكل من أجرم فيما يستقبل إمّا بالسيف وإمّا بالهلاك.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ يوجد ذلك الفعل (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بآيات الله وأنبيائه ، قال البيضاوي : فليس تكرارا وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد لأنّ الويل الأوّل بعذاب الآخرة ، وهذا للإهلاك في الدنيا مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب.
(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) أي : أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تغيرها عظمة (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي : ضعيف حقير وهو المني ، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار وهو من وجهين : الأوّل : أنّه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم وكل ما كان نعمه عليه أكثر كان جنايته في حقه أقبح وأفحش. الثاني : أنه تعالى ذكرهم أنه قادر على الابتداء ، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة ، فكما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال تعالى في حقهم : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وهذه الآية نظير قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٨]. وقرأ كل القراء بإدغام القاف في الكاف وإبقاء الصفة ولهم أيضا إدغام الصفة مع الحذف.
(فَجَعَلْناهُ) أي : بما لنا من القدرة والعظمة بالإنزال للماء في الرحم (فِي قَرارٍ) أي : مكان (مَكِينٍ) أي : حريز وهو الرحم.
(إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي : وهو وقت الولادة ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] إلى قوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [لقمان : ٣٤].
(فَقَدَرْنا) أي : ذلك دون غيرنا (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) نحن ، وقرأ نافع والكسائي بتشديد الدال فيصح على هذه القراءة أن يكون المعنى : فقدّرناه والباقون بالتخفيف ، وقال عليّ كرم الله وجهه : ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحدا ؛ لأنّ العرب تقول : قدر وقدر عليه الموت.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ كان ذلك (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة.
وقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ) أي : نصير بما شئنا بما لنا من العظمة (الْأَرْضَ كِفاتاً) مصدر كفت بمعنى ضم وعاء ضامّة.
(أَحْياءً) أي : على ظهرها في الدور وغيرها (وَأَمْواتاً) أي : في بطنها في القبور وغيرها. وقيل : الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض أي : الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت ، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت ، وقيل : كفاتا جمع كافت كصيام وقيام جمع صائم وقائم ، وقال الخليل : تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر ويقال انكفت القوم إلى منازلهم ، أي : انقلبوا ، فمعنى