ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلىاللهعليهوسلم بقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ) يا أشرف الخلق (حَدِيثُ مُوسى) أي : أليس قد أتاك حديثه ، فيسليك على تكذيب قومك ويهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم ، فإنه كان أقوى أهل الأرض بما كان له من كثرة الجنود فلما أصرّ على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأديب أغرقناه وآله ، ولم نبق منهم أحدا ، وقد كانوا لا يحصون عددا بحيث قيل : إنّ طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف فكيف بقومك الضعاف.
وقوله تعالى : (إِذْ) أي : حين (ناداهُ) منصوب بحديث لا بأتاك (رَبُّهُ) أي : المحسن إليه بالرسالة وغيرها (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي : المطهر غاية الطهر بتشريف الله تعالى له بإنزال النبوّة المفيضة للبركات. وقوله تعالى : (طُوىً) اسم الوادي وهو الذي طوي فيه الشرّ عن بني إسرائيل ، ومن أراد الله تعالى من خلقه ونشر فيه بركات النبوّة على جميع أهل الأرض المسلم بإسلامه وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه ، فإن العلماء قالوا : إنّ عذاب الاستئصال ارتفع حين أنزلت التوراة ، وهو واد بالطور بين إيلة ومصر ، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين.
وقوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) أي : ملك مصر الذي كان يستعبد بني إسرائيل على إرادة القول (إِنَّهُ طَغى) أي : تجاوز الحدّ في الكفر وعلا وتكبر.
وقال الرازي : لم يبين أنه طغى في أي شيء ، فقيل : تكبر على الله تعالى وكفر به ، وقيل : تكبر على الخلق واستعبدهم.
وروي عن الحسن رضي الله عنه قال : كان فرعون علجا من همدان ، وقال مجاهد رضي الله عنه : كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا : كان من أصبهان يقال له : ذو الظفر طوله أربعة أشبار.
وقوله تعالى : (فَقُلْ) أي : له (هَلْ لَكَ) أي : هل لك سبيل (إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي : تتطهر من الكفر والطغيان. قال ابن عباس رضي الله عنهما : بأن تشهد أن لا إله إلا الله. وقال أبو البقاء : لما كان المعنى أدعوك جاء بإلى ، وقال غيره : يقال هل لك في كذا ، وهل لك إلى كذا كما تقول : هل ترغب فيه وهل ترغب إليه. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي ، والأصل تتزكى والباقون بتخفيفها.
(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي : وأنبهك على معرفة المحسن إليه (فَتَخْشى) لأنّ الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] أي : العلماء به ، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شرّ. ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل» (١) بدأ بمخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا ، وأردفه الكلام الرفيق ليستدعيه للتلطف في القول ويستنزله بالمداراة من علوه كما أمر بذلك في قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٢٥] الآية. وقال الرازي : سائر الآيات تدل على أنه تعالى لما نادى موسى عليهالسلام ذكر له أشياء كثيرة (نُودِيَ
__________________
(١) أخرجه الترمذي في القيامة حديث ٢٤٥٠ ، والحاكم في المستدرك ٤ / ٣٠٨ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٤٤١ ، ١٠ / ١٧٩ ، ٢٥٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٣٧.