يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه : ١١ ـ ١٢] إلى قوله تعالى : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٣ ـ ٢٤] فدل قوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أنه من جملة ما ناداه به لا كل ما ناداه به ، وأيضا فليس الغرض أنه عليهالسلام كان مبعوثا إلى فرعون فقط ، بل إلى كل من كان في الطور إلا أنه خصه بالذكر لأنّ دعوته جارية مجرى كل القوم.
والفاء في قوله تعالى : (فَأَراهُ) عاطفة على محذوف يعني : فذهب فأراه (الْآيَةَ الْكُبْرى) كقوله تعالى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] أي : فضرب فانفجرت.
واختلفوا في الآية الكبرى أي : العلامة العظمى وهي المعجزة. فقال عطاء وابن عباس رضي الله عنهم : هي العصا. وقال مقاتل والكلبي رضي الله عنهما : هي اليد البيضاء تبرق كالشمس ، والأوّل أولى لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونها ، وهذا حاصل في العصا لأنها لما انقلبت حية لا بدّ أن يتغير اللون الأوّل ، فإذن كل ما في اليد فهو حاصل في العصا ، وأمور أخر وهي الحياة في الجرم الجمادي وتزايد أجزائه ، وحصول القدرة الكبيرة والقوّة الشديدة وابتلاعها أشياء كثيرة وزوال الحياة والقدرة عنها ، وذهاب تلك الأجزاء التي عظمت ، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حية ، وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزا مستقلا في نفسه ، فعلمنا أنّ الآية الكبرى هي العصا. وقال مجاهد رضي الله عنه : هي مجموع العصا واليد ، وقيل : فلق البحر ، وقيل : جميع آياته التسع.
(فَكَذَّبَ) أي : فتسبب عن رؤيته ذلك أن كذب موسى عليهالسلام (وَعَصى) الله تعالى بعد ظهور الآية وتحقيق الأمر ، وقيل : كذب بالقول وعصى بالتمرّد والتجبر.
(ثُمَّ أَدْبَرَ) أي : تولى وأعرض عن الإيمان بعد المهل والأناة إعراضا عظيما بالتمادي على أعظم ما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة ، حال كونه (يَسْعى) أي : يعمل بالفساد في الأرض ، أو أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوبا يسعى أي : يسرع في مشيته. قال الحسن رضي الله عنه : كان رجلا طياشا خفيفا ، وتولى عن موسى عليهالسلام يسعى ويجتهد في مكايدته ، أو أريد : ثم أقبل يسعى كما تقول : أقبل فلان يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل ، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال.
(فَحَشَرَ) أي : فتسبب عن إدباره أنه جمع السحرة للمعارضة وجنوده للقتال (فَنادى) حينئذ بأعلى صوته. قال حمزة الكرماني : قال له موسى عليهالسلام : إنّ ربي أرسلني إليك لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في النعيم والسرور ، ثم تموت فتدخل الجنة فقال : حتى أستشير هامان فاستشاره ، فقال : أتصير عبدا بعدما كنت ربا ، فعند ذلك جمع بعث الشرط وجمع السحرة والجنود.
فلما اجتمعوا قام عدوّ الله على سريره (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي : لا رب فوقي ، وقيل : أراد أنّ الأصنام أرباب وأنا ربها وربكم ، وقيل : أمر مناديا فنادى في الناس بذلك ، وقيل : قام فيهم خطيبا فقال ذلك.
(فَأَخَذَهُ اللهُ) أي : أهلكه بالغرق الملك الأعظم الذي لا كفء له (نَكالَ) أي : عقوبة (الْآخِرَةِ) أي : هذه الكلمة وهي قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وَالْأُولى) وهي قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨]. قال ابن عباس رضي الله عنهما : وكان بين الكلمتين