بالآية : وجهان : الأول أنّ التقوى تفيد الإكرام. الثاني : أنّ الإكرام يورث التقوى كما يقال المخلصون على خطر والأول أشهر ، والثاني أظهر فإن قيل : التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله صلىاللهعليهوسلم «لفقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد» (١) أجيب : بأنّ التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] فلا تقوى إلا للعالم فالتقي العالم أثمر علمه ، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمر لها ، لكن الشجرة المثمرة أشرف من التي لا تثمر ، بل هي حطب. قال الحسن البصري : إنما الفقيه العامل بعلمه أي وهو المراد من قوله صلىاللهعليهوسلم «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (٢) ومن قوله عز من قائل (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] فإن قيل : خطاب الناس بقوله تعالى (أَكْرَمَكُمْ) يقتضي اشتراك الكل في الإكرام ولا كرامة لكافر فإنه أضلّ من الأنعام أجيب بأنّ ذلك غير لازم مع أنه حاصل لدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] لأنّ كل من خلق فقد اعترف بربه ثم من استمرّ عليه وزاد زيد في كرامته ومن رجع عنه أزيل عنه أكثر الكرامة (إِنَّ اللهَ) أي : المحيط بكل شيء علما وقدرة (عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم بظواهركم يعلم أنسابكم (خَبِيرٌ) أي : محيط العلم ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى رداءكم.
ولما قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى وأصله الإيمان والاتقاء من الشرك. (قالَتِ الْأَعْرابُ) أي أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء (آمَنَّا) أي : بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر (قُلْ) يا أشرف الخلق تكذيبا لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب (لَمْ تُؤْمِنُوا) أي : لم تصدّق قلوبكم لأنكم لو آمنتم لم تمنوا لأنّ الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لو لا منه بالهداية لم يحصل الإيمان فله ولرسوله الذي كان ذلك على يديه المنّ والفضل (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي : أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة وأمنا من أن نكون حربا للمؤمنين وعونا للمشركين ، فأخبر الله تعالى أنّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وإن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانا دون التصديق بالقلب والإخلاص فالإسلام هو الدخول في السلم كما يقال أشتى إذا دخل في الشتاء وأصاف إذا دخل في الصيف وأربع إذا دخل في الربيع فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عزوجل لإبراهيم (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله تعالى : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ) أي : المعرفة التامّة لم تدخل إلى هذا الوقت (فِي قُلُوبِكُمْ) فلا يعدّ إقرار اللسان إيمانا إلا بمواطأة القلب قال ابن برجان : فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين.
وعن سعد بن أبي وقاص «قال أعطى رسول الله صلىاللهعليهوسلم رهطا وأنا جالس فيهم فترك رسول الله
__________________
(١) أخرجه الترمذي في العلم حديث ٢٦٨١ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٢٢ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٣٥٠ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ١٢١.
(٢) أخرجه البخاري حديث ٧١ ، ٣١١٦ ، ٧٣١٢ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٢٧ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٤٥ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٢٠ ، والدارمي في المقدمة حديث ٢٢٤ ، ٢٢٥.