(وَجاهَدُوا) أي : أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفوس فيه تصديقا لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان (بِأَمْوالِهِمْ) وذلك هو النية وقوله تعالى : (وَأَنْفُسِهِمْ) أعمّ من النية وغيرها وذلك هو الشجاعة قدم الأموال لقلتها عند العرب (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى المال والنفس لا الذين يتخلفون ويقولون شغلتنا أموالنا وأهلونا. قال القشيري : جعل الله تعالى الإيمان مشروطا بخصال ذكرها وذكره بلفظ إنما وهي للتحقيق يقتضي الطرد والعكس فمن أفرد الإيمان عن شرائطه التي جعلها له فمردود عليه قوله : (أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة (هُمُ الصَّادِقُونَ) أي : في قولهم وفعلهم أنهم مؤمنون.
ولما نزل هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحلفون بالله أنهم مؤمنون صادقون وعلم الله منهم غير ذلك قال الله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ) أي : لهؤلاء الأعراب مجهلا لهم ومبكتا (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ) أي : أتخبرون إخبارا عظيما الملك الأعظم المحيط قدرة وعلما (بِدِينِكُمْ) أي بقولكم آمنا (وَاللهُ) أي : والحال أن الملك المحيط بكل شيء (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) كلها على عظمتها وكثرة ما فيها (وَما فِي الْأَرْضِ) كذلك (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة (بِكُلِّ شَيْءٍ) أي مما ذكر ومما لم يذكر (عَلِيمٌ) أي : لا تخفى عليه خافية وهو تجهيل لهم وتوبيخ
(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ) أي : يذكرون ذكر من اصطنع صنيعة وأسدى إليك نعمة (أَنْ أَسْلَمُوا) أي : من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتال منهم ولما كان المنّ هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء قال تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم (قُلْ) أي : في جواب قولهم هذا (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) لو فرض أنكم كنتم متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع إذعان الباطن أي لا تذكروا الامتنان أصلا لأنّ الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله تعالى فلا ينبغي عدّه صنيعة على أحد فإنّ ذلك يفسده (بَلِ اللهُ) أي : الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه (يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) أي : بذكر أنه أسدى إليكم نعمة (أَنْ) أي : بأن (هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي : فهو المانّ عليكم لا أنتم عليه وعلي.
فإن قيل : كيف منّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا. أجيب بأوجه : أحدها : أنه تعالى لم يقل بل الله يمنّ عليكم أن رزقكم الإيمان بل قال أن هداكم للإيمان ثانيها : أنه تعالى منّ عليهم بما زعموا فكأنه تعالى قال أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار. فقال تعالى (هَداكُمْ) في زعمكم.
ولهذا قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : في قولكم آمنا فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله تعالى وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم. قال القشيري : من لا حظ شيئا من أحواله فإن رآها من نفسه كان مشركا وإن رآها لنفسه كان مكرا فكيف يمنّ العبد بما هو شرك أو مكر والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة هذا لعمري فضيحة والمنة تكدّر الصنيعة إذا كانت من المخلوقين وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله تعالى.
(إِنَّ اللهَ) أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما (يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ) أي : ما غاب فيها كلها (وَالْأَرْضِ) كذلك ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله تعالى :