مستغربا (مَزِيدٌ) أي : مما لا يدخل تحت أوهامهم ليشاؤوه فإن سياق الامتنان يدل على أنّ تنوينه للتعظيم والتعبير ب (لدي) يؤكد ذلك فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى قال : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) على المخاطبة ثم قال لهم ولم يقل لكم أجيب : من وجوه أولها : أن قوله تعالى : (ادْخُلُوها) فيه مقدر أي فيقال لهم ادخلوها فلا يكون التفاتا.
ثانيها : أنه التفات والحكمة الجمع بين الطرفين كأنه تعالى يقول غير مخلّ بهم في غيبتهم وحضورهم ففي حضورهم الحبور في غيبتهم الحور والقصور.
ثالثها : أنه يجوز أن يكون قوله تعالى لهم كلاما مع الملائكة يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم واعلموا أنّ لهم ما يشاؤون فيها فأحضروا بين أيديهم ما يشاؤون وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تقدرون أنتم عليه. والمزيد يحتمل أن يكون معناه الزيادة كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي عندنا ما نزيده على ما يرجون ويأملون. قال أنس وجابر : وهو النظر إلى وجه الله الكريم. قيل يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل ليلة جمعة في دار كرامته فهذا هو المزيد. ولما ذكر تعالى أوّل السورة تكذيب الأمم السابقة ذكر هنا إهلاك قرون ماضية بقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا) أي : بما لنا من العظمة (قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي : جيل هم في غاية القوة وزاد في بيان القوّة قوله تعالى : (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ) أي : من قريش (بَطْشاً) أي : قوّة وأخذا لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة.
تنبيه : كم منصوب بما بعده وقدم إما لأنه استفهام وإما لأن كم الخبرية تجري مجرى كم الاستفهامية في التصدير ومن قرن تمييز هم أشد صفة إمّا لكم وإما لقرن والفاء في قوله تعالى : (فَنَقَّبُوا) عاطفة على المعنى كأنه قيل اشتدّ بطشهم فنقبوا (فِي الْبِلادِ) والضمير في نقبوا إما للقرن المتقدّم وهو الظاهر وإما لقريش والتنقيب التنقير والتفتيش ومعناه التطواف في البلاد قال الحارث بن حلزة (١) :
نقبوا في البلاد من حذر المو |
|
ت وجالوا في الأرض كل مجال |
وقال امرؤ القيس (٢) :
وقد نقبت في الآفاق حتى |
|
رضيت من الغنيمة بالإياب |
ولما كان التقدير ولم يسلموا مع كثرة تنقيبهم توجه سؤال تنبيه للغافل الذاهل وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل بقوله تعالى (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : معدل ومحيد ومهرب وإن دق من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في ردّ أمرنا.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما ذكر في هذه السورة من الأساليب العجيبة والطرق الغريبة (لَذِكْرى) أي : تذكيرا عظيما جدّا (لِمَنْ كانَ) أي : كونا عظيما (لَهُ قَلْبٌ) أي عقل في غاية العظمة فهو بحيث يفهم ما يراه ويعتبر به ومن لم يكن كذلك فلا قلب له سليم بل له قلب لاه (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي : استمع الوعظ بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل (وَهُوَ)
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الحارث بن حلزة ص ٢١٤.
(٢) البيت من الوافر ، وهو في ديوان امرئ القيس ص ٤٣ ، ولسان العرب (نقب) ، وجمهرة الأمثال ١ / ٤٨٤ ، والعقد الفريد ٣ / ١٢٦ ، وكتاب الأمثال ص ٢٤٩ ، ومجمع الأمثال ١ / ٢٩٥.