المصطلق لما ذكر عنهم الوليد ما ذكر (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لشقيتم ، والعنت المشقة ، وإنما قال : لو يطيعكم ولم يقل لو أطاعكم ، للدلالة على أنهم كانوا يريدون استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام لهم ، والحق خلاف ذلك ، وإنما الواجب أن يطيعوه هم لا أن يطيعهم هو ، وذلك أن رأي رسول الله صلىاللهعليهوسلم خير وأصوب من رأي غيره ، ولو أطاع الناس في رأيهم لهلكوا ، فالواجب عليهم الانقياد إليه والرجوع إلى أمره ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) الآية.
(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) اختلف في سبب نزولها ، فقال الجمهور : هو ما وقع بين المسلمين وبين المتحزبين منهم لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مر به رسول صلىاللهعليهوسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه ، فبال حمار رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فقال عبد الله بن أبيّ للنبي صلىاللهعليهوسلم : لقد آذاني نتن حمارك ، فردّ عليه عبد الله بن رواحة وتلاحى الناس حتى وقع بين الطائفتين ضرب بالجريد ، وقيل : بالحديد ، وقيل : سببها أن فريقين من الأنصار وقع بينهما قتال ، فصالحهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد جهد ، ثم حكمها باق إلى آخر الدهر. وإنما قال اقتتلوا ولم يقل اقتتلا لأن الطائفة في معنى القوم والناس ، فهي في معنى الجمع (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أمر الله في هذه الآية بقتال الفئة الباغية ، وذلك إذا تبين أنها باغية ، فأما الفتن التي تقع بين المسلمين ؛ فاختلف العلماء فيها على قولين : أحدهما أنه لا يجوز النهوض في شيء منها ولا القتال ، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص وأبي ذر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وحجتهم قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قتال المسلم كفر (١). وأمره عليه الصلاة والسلام بكسر السيوف في الفتن ، والقول الثاني أن النهوض فيها واجب لتكفّ الطائفة الباغية ، وهذا قول علي وعائشة وطلحة والزبير وأكثر الصحابة ، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء ، وحجتهم هذه الآية فإذا فرّعنا على القول الأول ، فإن دخل داخل على من اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه أو ماله فليدفعه عن نفسه وإن أدّى ذلك إلى قتله لقوله صلىاللهعليهوسلم : من قتل دون نفسه أو ماله فهو شهيد (٢) ، وإذا فرّعنا على القول الثاني فاختلف مع من يكون النهوض في الفتن فقيل : مع السواد الأعظم وقيل : مع العلماء وقيل : مع من يرى أن الحق معه ، وحكم القتال في الفتن : أن لا يجهز على جريح ، ولا يطلب هارب ، ولا يقتل أسير ولا يقسم فيء (حَتَّى تَفِيءَ) أي ترجع إلى
__________________
(١). الحديث رواه سعد بن أبي وقاص وأخرجه أحمد ج ١ ص ١٧٨.
(٢). الحديث رواه عبد الله بن عمرو وأخرجه أحمد ج ٢ ص ٢١٧.