قولين في المذهب. وقال ابن عباس : هو الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة ، وهذا أظهر لأن الإشهاد به يرفع الإشكال والنزاع ، ولا فرق في هذا بين الرجعة والطلاق ، وقد ذكرنا العدالة في البقرة وقوله : ذوي عدل يدل على أنه إنما يشهد في الطلاق والنكاح الرجال دون النساء ، وهو مذهب مالك. خلافا لمن أجاز شهادة النساء في ذلك. وقوله : منكم يريد من المسلمين وقيل : من الأحرار فيؤخذ من ذلك ردّ شهادة العبيد ، وهو مذهب مالك (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) هذا خطاب للشهود ، وإقامة الشهادة يحتمل أن يريد بها القيام ، فإذا استشهد وجب عليه أن يشهد وهو فرض كفاية ، وإلى هذا المعنى أشار ابن الفرس ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون ميل ولا غرض ، وبهذا فسره الزمخشري وهو أظهر لقوله : لله وهو كقوله (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥] شهداء لله (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما تقدم من الأحكام.
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) قيل إنها في الطلاق ، ومعناها : من يتق الله فيطلق طلقة واحدة ، حسبما تقتضيه السنة يجعل له مخرجا بجواز الرجعة متى ندم على الطلاق ، وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال لمن طلق ثلاثا : إنك لم تتق الله فبانت منك امرأتك ، ولا أرى لك مخرجا أي لا رجعة لك. وقيل : إنها على العموم أي من يتق الله في أقواله وأفعاله يجعل له مخرجا من كرب الدنيا والآخرة ، وقد روي هذا أيضا عن ابن عباس ، وهذا أرجح لخمسة أوجه أحدها حمل اللفظ على عمومه فيدخل في ذلك الطلاق وغيره ، الثاني أنه روي أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنه أسر ولده وضيق عليه رزقه ، فشكى ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأمره بالتقوى ، فلم يلبث إلا يسيرا وانطلق ولده ووسع الله رزقه ، والثالث أنه روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قرأها فقال : مخرجا من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة. والرابع روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» الآية : فما زال يقرؤها ويعيدها الخامس قوله : ويرزقه من حيث لا يحتسب ، فإن هذا لا يناسب الطلاق وإنما يناسب التقوى على العموم.
قال بعض العلماء : الرزق على نوعين ؛ رزق مضمون لكل حي طول عمره ، وهو الغذاء الذي تقوم به الحياة وإليه الإشارة بقوله : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ورزق موعود للمتقين خاصة ، وهو المذكور في هذه الآية (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه بحيث لا يحتاج معه إلى غيره ، وقد تكلمنا على التوكل في آل عمران (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) (١) أي يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء ، هذا حض على التوكل وتأكيد له ، لأن العبد إذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله توكل عليه وحده ولم يعوّل على سواه (قَدْ جَعَلَ
__________________
(١). بالغ أمره : قرأ حفص بالإضافة وقرأ الباقون : بالغ أمره.