عَنْ ذِكْرِنا) أي القرآن (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢٩) وهذا قبل الأمر بالجهاد (ذلِكَ) أي طلب الدنيا (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي نهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) أي عالم بهما فيجازيهما (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو مالك لذلك ، ومنه الضال والمهتدي ، يضل من يشاء ويهدي من يشاء (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) من الشرك وغيره (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) بالتوحيد وغيره من الطاعات (بِالْحُسْنَى) (٣١) أي الجنة ، وبيّن المحسنين بقوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا
____________________________________
ونفعه. قوله : (أي عن العلم) أشار بذلك إلى أن من بمعنى عن ، والحق بمعنى العلم. قوله : (فيما المطلوب فيه العلم) أي في الأمر الذي يطلب فيه العلم وهو الاعتقاديات ، بخلاف العمليات ، فالظن فيها كاف ، لاختلاف الأئمة في الفروع الفقهية ، فتحصل أن الأمور الاعتقادية ، كمعرفة الله تعالى ، ومعرفة الرسل وما أتوا به ، لا بد فيها من الجزم المطابق للحق عن دليل ، ولا يكفي فيها الظن ، وأما الأمور العملية كفروع الدين ، فيكفي فيها غلبة الظن.
قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى) أي اترك دعوته والاهتمام بشأنه ، فإنه لا تفيد دعوته إلا عنادا وإصرارا على الباطل. قوله : (وهذا قبل الأمر بالجهاد) أي فهو منسوخ بآية القتال ، وقد تبع المفسر في ذلك أكثر المفسرين ، وقال الرازي : إنها ليست منسوخة بآية القتال ، بل هي موافقة لها ، وذلك لأن النبي صلىاللهعليهوسلم في الأول ، كان مأمورا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلما عارضوا أمر بإزالة شبههم ، والجواب عنها فقيل له : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم لما لم ينفع ذلك فيهم قيل له : أعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان ، فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم ، فثمرة الإعراض القتال ، وقد يقال : إن الخلاف لفظي ، فمن أراد بالإعراض الكف عن مجادلتهم ومعاملتهم بالتي هي أحسن قال بالنسخ ، ومن أراد بالإعراض عنهم ، ترك جدالهم ومعاملتهم بالسيف قال بعدمه. قوله : (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) تسميته علما تهكم بهم.
قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) الخ ، تعليل للأمر بالإعراض ، والمعنى : أن الله عالم بالضال فيجازيه على ضلاله ، وبالمهتدي فيجازيه على هداه ، ومن هنا خاف العارفون من سوء الخاتمة ، لعدم اعتمادهم على أعمالهم. قوله : (ومنه الضال والمهتدي) دفع بذلك ما يقال : كيف يجعل الجزاء علة لملك ما في السماوات والأرض ، مع أنه ثابت لله تعالى بالذات ، فأجاب : بأنه علة لمحذوف ، دل عليه قوله ملك السماوات والأرض.
قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا) الخ ، أشار بذلك إلى أن اللام متعلقة بمحذوف قدره بقوله : (يضل من يشاء) الخ ، ويصح أن تكون اللام للعاقبة والصيرورة ، والمعنى : أن عاقبة أمر الخلق ، أن يكون فيهم المحسن والمسيء ، فيجازي المحسن بالإحسان ، والمسيء بالإساءة. قوله : (وبين المحسنين) الخ ، أي فالذين يجتنبون بدل أو عطف بيان أو نعت للذين أحسنوا ، أو مفعول لمحذوف تقديره أعني ، أو خبر لمحذوف تقديره هم الذين الخ. قوله : (كَبائِرَ الْإِثْمِ) جمع كبيرة ، وهي ما ورد فيها وعيد أو حدّ. قوله : (وَالْفَواحِشَ) إما عطف مرادف إن أريد بها الكبائر ، أو خاص إن أريد بها ما ترتب عليه عظيم مفسدة ،