الأمر الانتزاعيّ ليس حكما شرعيّا ومجعولا شرعا فلا مجال لاستصحابه (١).
يمكن أن يقال أوّلا : إن كان مفاد النسخ هو رفع البعث الصادر من المولى فلا دلالة للناسخ ولا للمنسوخ على الرجحان أو الجواز ، وأمّا إن كان المفاد هو رفع الإلزام بالترخيص في الترك مع بقاء البعث فهو موضوع لحكم العقلاء بالاستحباب ، كما أنّ البعث مع عدم الترخيص موضوع لحكمهم بالوجوب ، لما قرّر في محلّه من أنّ الوجوب والاستحباب ليسا داخلين في مدلولي هيئة افعل ، بل هما أمران انتزاعيّان من البعث مع عدم الترخيص والبعث مع الترخيص.
ليس معنى ما ذكرناه هو أنّ لدليل الوجوب ظهورات يبقى بعضها مع سقوط بعض ، حتّى يقال كما في منهاج الوصول بأنّ البعث الإلزامي لا يكون له ظهور إلّا في نفس البعث ويفهم الإلزام من أمر آخر كحكم العقلاء بكونه تمام الموضوع لوجوب الطاعة إلّا أن يقوم دليل على الترخيص ، ولو فرض ظهوره في الوجوب وضعا لا يكون له إلّا ظهور واحد ، فمع قيام الدليل على النسخ لا يبقى ظهور له (٢).
بل نقول : لا يصدر من المولى إلّا البعث ، والوجوب هو حكم العقلاء ، وموضوعه هو البعث مع عدم الترخيص ، وهذا الحكم باق ما دام البعث موجودا ولم يبدّل عدم الترخيص بالترخيص ، وإذا بدّل الشارع بالنسخ ورفع الإلزام عدم الترخيص بالترخيص حكم العقلاء بالاستحباب ، لأنّ موضوع حكمهم بالاستحباب هو وجود البعث مع الترخيص في الترك وكلاهما موجود ، إذ المفروض أنّ البعث لم يرتفع والترخيص حادث بالنسخ ورفع الإلزام ، ومن المعلوم أنّ البعث مع الترخيص موضوع لحكم العقلاء بالاستحباب ، كما إذا كان من أوّل الأمر كذلك ؛ فدليل المنسوخ
__________________
(١) ج ٢ ص ٨٣.
(٢) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٨١.