يدلّ على البعث ، ودليل الناسخ يدلّ على الترخيص ، ومجموعهما موضوع لحكم العقلاء بالاستحباب.
ولا نقول أيضا بأنّ الوجوب ـ وإن كان بسيطا ـ يتضمّن مراتب عديدة وهي أصل الجواز والرجحان والإلزام ، فيمكن أن يرتفع بعض المراتب ويبقى الآخر ، وبما أنّ الوجوب حقيقة ذات تشكيك فلا حاجة إلى إثبات مرتبة بعد ارتفاع الأخرى إلى دليل على الفصل ، فإنّه بعد ذهاب مرتبة منه يتحدّد قهرا بالاخرى ، نظير الحمرة الشديدة التي تزول مرتبة منها فتبقى اخرى ، كما ذهب إليه المحقّق العراقي في نهاية الأفكار. حتّى يقال ـ كما في مناهج الوصول ـ بأنّ الوجوب من الامور الانتزاعيّة وهي ليست ذات مراتب ، والتفاوت بين البعث الإلزامي والاستحبابي ليس في نفس البعث بل في منشئه الذي هو الإرادة (١). بل نقول بأنّ الوجوب بسيط ولا يتضمّن المراتب المذكورة ، ولكنّ موضوعه هو البعث مع عدم الترخيص ، فإذا نسخ الوجوب ورخّص في الترك من دون رفع أصل البعث تبدّل موضوع الحكم العقلاء بالوجوب بموضوع حكمهم بالاستحباب.
وعليه ، فالمتّبع هو لسان دليل الناسخ من أنّه رافع لأصل البعث فلا دلالة على الرجحان والجواز أو أنّه رافع للإلزام ومبدّل لعدم الترخيص بالترخيص ، فيحكم بعد رفع الوجوب بالاستحباب بالتقريب الذي ذكرناه.
وثانيا : أنّه مع التسليم بعدم دلالة دليل الناسخ والمنسوخ ، يمكن التمسّك باستصحاب الإرادة بناء على أنّ الاستصحاب أصل محرز ، كما يشهد له أدلّة اعتباره الدالّة على إبقاء اليقين وعدم نقضه ، فإنّه لحن كلحن صدق العادل في الأمارات ، ويشهد أيضا تقدّم الاستصحاب على سائر الاصول. وعليه ، فالاستصحاب حينئذ
__________________
(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٨٠.