يوجب جعل العقاب على نفس الإرادة في هذه الموارد حتّى يحذر الناس من القرب إليها. هذا ، مضافا إلى احتمال أن يكون المقصود من الإرادة والمحبّة في مثل قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) وفى مثل : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. هي الإرادة والمحبّة العمليّة كقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) الآية.
ولو سلّمنا دلالة الآيات والأخبار على ترتّب استحقاق العقاب على مجرّد قصد المعصية مطلقا من دون فرق بين موارد المعصية ، فلا تعارض بينها وبين أخبار العفو لأنّ أخبار العفو ؛ تدلّ على عدم فعليّة هذا الاستحقاق تفضّلا من الله سبحانه وتعالى ، ولا منافاة بينهما. وعليه فبعد الجمع بين طوائف الأخبار يستفاد من مجموع الأدلّة عدم ترتّب المؤاخذة على نيّة المعصية عدا موارد خاصّة.
ولو سلّمنا التعارض بين الأخبار فيجري فيها قواعد الأخبار المتعارضة فإن قلنا بالتخيير فهو ، وإلّا فمقتضى القاعدة هو التساقط ، وقد عرفت أنّ العقل لا يحكم باستحقاق العقوبة على مجرّد العزم والقصد.
فتحصّل : أنّه لا دليل عقلا ولا نقلا على فعليّة حرمة نفس القصد والعزم عدا موارد خاصّة كالكفر ومحبّة إشاعة الفحشاء وإرادة العلوّ والفساد ، ومع عدم فعليّة حرمة نفس العزم والقصد فالعقوبة في موارد التجرّي يختصّ بما إذا أتى بالفعل ، ولا يكفي مجرّد العزم ، فلا تغفل.
التنبيه الثالث :
أنّ موضوع البحث في التجرّي لا يختصّ بصورة القطع ، بل موضوعه هو الحجّة غير المطابقة للواقع سواء كانت هى القطع أو العلم الإجمالي أو الظنّ أو احتمال التكليف المنجّز كالشبهة البدويّة في الحكم قبل الفحص ، فإذا قامت الحجّة المذكورة يكون الحكم منجّزا.