«العسلان» و «الرتكان» .. ومثل هذا «الغليان» ؛ لأنه زعزعة وتحرك ، ومثله «الغثيان» لأنه تجيش نفسه وتثور ، ومثله الخطران واللمعان ، لأن هذا اضطراب وتحرّك ، ومثل ذلك اللهبان والصخدان والوهجان لأنه تحرك الحر وثؤوره فإنما هو بمنزلة الغليان ..» (١).
نلمح فى هذا النص التفات سيبويه إلى الدلالة المركزية المشتركة التى توحى بها البنية الصوتية لتلك المصادر (النزوان ، والنقزان ، والقفزان ، والعسلان ، والرتكان ، والغليان ، والغثيان ، والخطران ، واللمعان ، واللهبان ، والوهجان ... إلخ).
فهذه المصادر قد اشتركت جميعا فى بنية صوتية واحدة هى صيغة فعلان بما لها من سمات صوتية خاصة.
وإذا تأملنا الدلالة المعجمية لتلك المصادر وجدناها تشترك جميعها فى معنى مشترك بينها ، هو الحركة والاهتزاز والاضطراب ، وهى تعبر عن الشىء الذى تزداد حركته واهتزازه واضطرابه شيئا فشيئا ، ثم تطول حركته ويستمر اضطرابه حينا ، ولا يكون هدوؤه فجأة ، بل يستمر زمنا حتى يهدأ.
وإذا تأملنا البنية الصوتية لتلك المصادر التى جاءت على صيغة (فعلان) وجدنا أن توالى الحركتين القصيرتين ـ الفتحتين ـ إتباع هاتين الفتحتين بفتحة طويلة هى ألف المدّ ، ثم انتهاء الكلمة بالنون ذات الغنة المجهورة التى يمتد زمن النطق بها حينا بما يشبه الزّنّة الطويلة ... إذا تأملنا ذلك كله وجدنا تمام المناسبة بين السمات الصوتية لتلك المصادر والمعنى الذى تدل عليه وهو الحركة والاهتزاز والاضطراب الذى يزداد شيئا فشيئا وهذا ما تعبر عنه الحركتان القصيرتان ـ الفتحتان المتواليتان ـ ، ثم تأتى الحركة الطويلة ـ ألف المد ـ لتعبر عن طول تلك الحركة ، ثم يأتى حرف النون ليعبر عن معنى آخر وهو أن هدوء تلك الحركة لا يكون فجأة بل يحتاج إلى زمن يسير تخفت فيه الحركة شيئا فشيئا حتى تهدأ ، وهو ما تعبر عنه غنّة النون ذات الصوت المجهور.
وإذا كان سيبويه قد التفت إلى العلاقة بين الأصوات والمعانى التى تدل عليها فى مثل تلك المصادر ، دون محاولة منه فى الكشف عن وجه المناسبة بين أصوات تلك المصادر ومعانيها ـ فإن ابن جنى قد تلقف إشارات كل من الخليل وسيبويه فى هذا المجال ثم أولى هذا الباب عناية فائقة ، ولم يكتف فيه بالوقوف على الظاهرة كهؤلاء القدماء ، بل
__________________
(١) سيبويه الكتاب ٢ / ٢١٨.