نعم ، وفى قوله :
* وسالت بأعناق المطىّ الأباطح (١) *
من الفصاحة ما لا خفاء به. والأمر فى هذا أسير ، وأعرف وأشهر.
فكأنّ العرب إنما تحلّى ألفاظها وتدبجها وتشيها ، وتزخرفها ، عناية بالمعان التى وراءها ، وتوصّلا بها إلى إدراك مطالبها ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ من الشعر لحكما وإنّ من البيان لسحرا» (٢). فإذا كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعتقد هذا فى ألفاظ هؤلاء القوم ، التى جعلت مصايد وأشراكا للقلوب ، وسببا وسلّما إلى تحصيل المطلوب ، عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعانى ، والمخدوم ـ لا شكّ ـ أشرف من الخادم.
والأخبار فى التلطّف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من أن يؤتى عليها ، أو يتجشّم للحال (نعت لها) ، ألا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة ، فقال المسئول : إن علىّ يمينا ألا أفعل هذا. فقال له السائل : إن كنت ـ أيّدك الله ـ لم تحلف يمينا قطّ على أمر فرأيت غيره خيرا منه فكفّرت عنها له ، وأمضيته ، فما أحبّ أن أحنثك ، وإن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلنى أدون الرجلين عندك. فقال له : سحرتنى ، وقضى حاجته.
وندع هذا ونحوه لوضوحه ، ولنأخذ لما كنا عليه فنقول :
مما يدلّ على اهتمام العرب بمعانيها ، وتقدّمها فى أنفسها على ألفاظها ، أنهم قالوا فى شمللت ، وصعررت (٣) ، وبيطرت ، وحوقلت ، ودهورت (٤) ، وسلقيت (٥) ، وجعبيت (٦) : إنها ملحقة بباب دحرجت. وذلك أنهم وجدوها على سمتها : عدد
__________________
(١) سبق تخريجه.
(٢) «صحيح» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى وغيرهم ، وانظر صحيح أبى داود (ح ٤١٩٠) ، وراجع الصحيحة (١٧٣١).
(٣) صعرر الشىء فتصعرر دحرجه فتدحرج واستدار. اللسان (صعرر).
(٤) الدهورة : جمعك الشىء وقذفك به فى مهواة ؛ ودهورت الشىء : كذلك. اللسان (دهر).
(٥) سلقيت : مأخوذ من السلق وهو الصدم والدفع. اللسان (سلق).
(٦) جعبيته جعباء : صرعته. اللسان (جعب).