منه. وهذا موضع متعب مؤذ ، يشوب النفس ، ويشرى (١) اللبس ؛ إلا أن هذا كأنه متعذّر ولا يكاد يقع مثله. وذلك أن الأعرابىّ الفصيح إذا عدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها ولم يبهأ بها. سألت مرة الشجرىّ أبا عبد الله ومعه ابن عمّ له دونه فى فصاحته ، وكان اسمه غصنا ، فقلت لهما : كيف تحقّران (حمراء)؟ فقالا : حميراء. قلت : فسوداء؟ قالا : سويداء. وواليت من ذلك أحرفا وهما يجيئان بالصواب. ثم دسست فى ذلك (علباء) فقال غصن : (عليباء) وتبعه الشجرىّ. فلما همّ بفتح الباء تراجع كالمذعور ، ثم قال : آه! عليبىّ ورام (٢) الضمة فى الياء. فكانت تلك عادة له ، إلا أنهم أشدّا استنكارا لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة ؛ لأنّ بعضهم قد ينطق بحضرته بكثير من اللغات فلا ينكرها. إلا أن أهل الجفاء وقوّة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكرهم زيغ الإعراب ؛ ألا ترى أن أبا مهديّة سمع رجلا من العجم يقول لصاحبه زوذ ، فسأل أبو مهدية عنها فقيل له : يقول له : اعجل ، فقال أبو مهدية : فهلا قال له : حيّهلك. فقيل له : ما كان الله ليجمع لهم إلى العجمية العربية. وحدّثنى المتنبى أنه حضرته جماعة من العرب منصرفه من مصر ، وأحدهم يصف بلدة واسعة ، فقال فى كلامه : تحير فيها العيون ، قال : وآخر من الجماعة يجيء إليه سرّا ويقول له : تحار ، تحار. والحكايات فى هذا المعنى كثيرة منبسطة.
ومن بعد فأقوى القياسين أن يقبل ممن شهرت فصاحته ما يورده ، ويحمل أمره على ما عرف من حاله ، لا على ما عسى أن يكون من غيره. وذلك كقبول القاضى شهادة من ظهرت عدالته ، وإن كان يجوز أن يكون الأمر عند الله بخلاف ما شهد به ؛ ألا تراه يمضى الشهادة ويقطع بها وإن لم يقع العلم بصحّتها ؛ لأنه لم يؤخذ بالعمل بما عند الله ، إنما أمر بحمل الأمور على ما تبدو ، وإن كان فى المغيّب غيره. فإن لم تأخذ بها دخل عليك الشكّ فى لغة من تستفصحه ولا تنكر شيئا من لغته مخافة أن يكون فيها بعض ما يخفى عليك فيعترض الشكّ على يقينك ،
__________________
(١) يشرى اللبس : أى يجعله يشرى أى يلج ويكثر.
(٢) روم الضمة هو أن يأتى بها فى الوقف على المضموم خفية. وهو من أنواع الوقف.