فهذا طريق المثل واحتياطاتهم فيها بالصنعة ، ودلالاتهم [منها] على الإرادة والبغيّة.
فأمّا مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ، ونهج متلئبّ عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبّر بها عنها ، فيعدّلونها بها ويحتذونها عليها. وذلك أكثر ممّا نقدّره ، وأضعاف ما نستشعره.
من ذلك قولهم : خضم ، وقضم. فالخضم لأكل الرّطب ؛ كالبطّيخ والقثّاء وما كان نحوهما من المأكول الرّطب. والقضم للصّلب اليابس ؛ نحو قضمت الدابّة شعيرها ، ونحو ذلك. وفى الخبر «قد يدرك الخضم بالقضم» أى قد يدرك الرخاء بالشدّة ، واللين بالشّظف. وعليه قول أبى الدرداء : (يخضمون ونقضم والموعد الله) فاختاروا الخاء لرخاوتها للرّطب ، والقاف لصلابتها لليابس ؛ حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث.
ومن ذلك قولهم : النضح للماء ونحوه ، والنضخ أقوى من النضح ؛ قال الله سبحانه : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) [الرحمن : ٦٦] فجعلوا الحاء ـ لرقّتها ـ للماء الضعيف ، والخاء ـ لغلظها ـ لما هو أقوى منه.
ومن ذلك القدّ طولا ، والقطّ عرضا. وذلك أن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعا له من الدال. فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العرض ؛ لقربه وسرعته ، والدال المماطلة لما طال من الأثر ، وهو قطعه طولا.
ومن ذلك قولهم : قرت الدم ، وقرد الشىء ، وتقرّد ، وقرط يقرط. فالتاء أخفت الثلاثة ، فاستعملوها فى الدم إذا جفّ ؛ لأنه قصد ومستخفّ فى الحسّ عن القردد الذى هو النّباك فى الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء ـ وهى أعلى الثلاثة صوتا ـ (للقرط) (١) الذى يسمع. وقرد من القرد ؛ وذلك لأنه موصوف بالقلّة والذلّة ؛ قال الله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥].
ينبغى أن يكون (خاسئين) خبرا آخر لـ (كونوا) والأوّل (قردة) فهو كقولك :
__________________
(١) يقال : قرط الكراث : قطعه فى القدر ، والقرط يسمع له صوت إذ كان قطعا وشقا.