حكاية [أمير لا يحب البكاء]
كان السلطان منسى موسى لما حج ، نزل بروض لسراج الدين هذا ببركة الحبش(١٠٥)، خارج مصر ، وبها ينزل السلطان واحتاج إلى مال فتسلّفه من سراج الدين وتسلّف منه أمراؤه أيضا وبعث معهم سراج الدين وكيله يقتضى المال فأقام بمالي فتوجه سراج الدين بنفسه لاقتضاء ماله ، ومعه ابن له فلما وصل تنبكتو أضافه أبو إسحاق الساحلي ، فكان من القدر موته تلك الليلة ، فتكلم الناس في ذلك ، واتّهموا أنه سم ، فقال ولده : إني أكلت معه ذلك الطعام بعينه فلو كان فيه سم لقتلنا جميعا لكنه انقضى أجله! ووصل الولد إلى مالّي واقتضى ماله وانصرف إلى ديار مصر.
ومن تنبكتو ركبت النيل في مركب صغير منحوت من خشبة واحدة ، كنا ننزل كل ليلة بالقرى فنشتري ما نحتاج إليه من الطعام والسمن بالملح وبالعطريات وبحلى الزّجاج ، ثم وصلت إلى بلد أنسيت اسمه ، له أمير فاضل حاج يسمى فربا سليمان مشهور بالشجاعة والشدة ، لا يتعاطى أحد النزع في قوسه ، ولم أر في السودان أطول منه ولا أضخم جسما ، واحتجت بهذه البلدة إلى شيء من الذّرة فجئت إليه ، وذلك يوم مولد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم (١٠٦) ، فسلمت عليه ، وسألني عن مقدمي ، كان معه فقيه يكتب له فأخذت لوحا كان بين يديه وكتبت فيه : يا فقيه! قل لهذا الأمير : إنّا نحتاج إلى شيء من الذرة (١٠٧) للزاد والسلام! وناولت الفقيه اللوح يقرأ ما فيه سرّا ويكلم الأمير في ذلك بلسانه ، فقرأه جهرا وفهمه الأمير ، فأخذ بيدي وأدخلني إلى مشوره ، وبه سلاح كثير من الدرق والقسي والرماح ، ووجدت عنده كتاب المدهش لابن الجوزي (١٠٨) فجعلت أقرأ فيه ، ثم أتى بمشروب لهم يسمى الدّقنو ، بفتح الدال المهمل وسكون القاف وضم النون وواو ، وهو ماء فيه جريش الذرة
__________________
(١٠٥) بركة الحبش ، كانت جنوب الفسطاط ، وفي بعض المخطوطات بركة الخش ـ عن السّلف الذي اضطر اليه موسى بعد أن صرف طنّا ونصف الطن من الذهب يذكر أن التجار هناك ربحوا «أضعافا مضاعفة» فانهم في مقابلة تسليفهم لثلاثمائة دينار مثلا ربحو سبعمائة! (عن حج موسي انظر بدائع الزهور لابن إياس الذي ينعته بملك التكرور ويذكر أنه قدّم هدايا جليلة ...) هذا وحسب رواية أخرى فإن سراج الدّين ابن الكويك سلف موسى ثلاثين الف دينار وبعث باثنين من رجاله الى مالي لاسترجاع ماله بيد أن هذين توفيا بمالي ، وهنا بعث بولده فخر الدين ابى جعفر وبعث معه بموظف ثالث لكن الموت ادركت حينئذ موسى نفسه فلم يحصل المبعوثان على شيء ...
Monteil : Les Empires du MALIp. ٣١١ Peckingham IV P. ٠٧٩ N ٠ ١٨.
(١٠٦) ١٢ ربيع الأول ٧٥٤ يوافق ٢٥ غشت ١٣٥٣.
(١٠٧) ليس القصد إلى الذّرة الامريكية التي تعرف اليوم ولكن إلى الذرة البيضاء التي نقدّمها لطير الحمام.
(١٠٨) هو عبد الرحمن بن علي الجوزي البغدادي الحنبلي أبو الفرج ، كثير التصانيف ... من تأليفه تلقيح فهوم أهل الآثار ... والأذكياء وأخبارهم ، وكتاب الحمقى والمغفّلين ، وتقويم اللسان ومنها هذا التأليف : «المدهش في المحاضرة وغرائب الأخبار» له نحو ثلاثمائة مصنف ... أدركه أجله في بغداد عام ٥٩٧ ـ ١٢٠١.