وتعلّق بالأمان النساء والصّغار ، وبودرت المدينة بالتطهير ونطقت المآذن العالية بالأذان الشهير، والذكر الجهير ، وطرحت كفّارها التماثيل عن المسجد الكبير ، وأزرى بألسنة النواقيس لسان التهليل والتكبير ، وأنزلت عن الصروح أجرامها ، يعيى الهندام (٢٥) مرامها ، وألفي منبر الإسلام بها مجفوّا فأنست غربته ، وأعيد إليه قربه وقربته ، وتلا واعظ الجمع المشهود ، قول منجز الوعود ومورق العود (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ، وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) فكان الدمع يغرق الآماق ، والوجد يستأصل الأرماق ، وارتفعت الرغبات ، وعلت السيئات ، وجيء بأسرى المسلمين يرسفون في القيود الثقال ، وينسلون من أحداب الاعتقال ، ففكت عن سوقهم أساود الحديد ، وعن أعناقهم فلكات البأس الشّديد ، وظلّلوا بجناح اللطف العريض المديد ، وترتبت في المقاعد الحامية ، وأزهرت بذكر الله تعالى المآذن السامية ، وعادت المدينة لأحسن أحوالها ، وسكنت من بعد أهوالها ، وعادت الجالية إلى أموالها ، ورجع إلى القطر شبابه ، وردّ على دار الإسلام بابه ، واتصلت بأهل لا إله إلّا الله أسبابه ، فهي اليوم في بلاد الإسلام قلاده النحر ، وحاضرة البرّ والبحر ، أبقى الله تعالى عليها وعلى ما وراءها من بيوت أمتك ، ودائع الله في ذمتك ، بكلمة دينك الصالحة الباقية ؛ وعدنا والصلاة عليك شعار البروز والقفول ، وهجّيرا الشروق والأفول ، والجهاد يا رسول الله الشأن المعتمد ، ما امتدّ بالأجل الأمد ، والمستعان الفرد الصمد.
«ولهذا العهد يا رسول الله صلى الله عليك ، وبلّغ وسيلتي إليك ، بلغ من هذا القطر المرتدي بجاهك الذي لا يذل من ادّرعه ، ولا يضل من اهتدى بالسبيل الذي شرعه ، إلى أن لا طفنضا ملك الروم بأربعة من البلاد كان الكفر قد اغتصبها ، ورفع التماثيل بيوت الله تعالى ونصبها ، فانجاب عنها بنورك الحلك ، ودار بإدالتها إلى دعوتك الفلك ، وعاد إلى مكاتبها القرآن الذي نزل به على قلبك الملك ، فوجبت مطالعة مقرّك النبويّ بأحوال هذه الأمة المكفولة في حجرك ، المفضلة بإدارة تجرك ، المهتدية بأنوار فجرك ، وهل هو إلا ثمرات سعيك ، ونتائج رعيك ، وبركة حبّك ، ورضاك الكفيل برضي ربّك ، وغمام رعدك ، وإنجاز وعدك ، وشعاع من نور سعدك ، وبذر يجنى ريعه من بعدك ، ونصر رايتك ، وبرهان آيتك ، وأثر حمايتك ورعايتك.
«واستنبت هذه الرسالة مائحة بحر الندى الممنوح ومفاتحة باب الهدى بفتح الفتوح ، وفارعة المظاهر والصروح ، وملقية الرحل بمتنزل الملائكة والروح ، لتمدّ إلى قبولك يد استمناح ، وتطير إليك من الشوق الحثيث بجناح ، ثم تقف موقف الانكسار ، وإن تجرها آمنا من
__________________
(٢٥) الهندام : الآلات