وأنا ممن زرته في آخر عام ثمانية وخمسين وسبعمائة ، فأسمعني كلامه ، وأولاني برّه وإكرامه. فرأيت منه رجلا أطال شأو المجاهدات ، وتوغل في ارتياد رياض الرياضات ، وجعل لذاته في ترك اللّذات ، وصفى باطنه من كدورات الشهوات ، حتى لحق بمن هام في وادي الفناء الذي هو وجود ، وغاص في بحور المحو الذي هو إثبات مشهود. وتحلّى بفرائد التفريد ، وكتب في جرائد التجريد. وأنس باللوائح والطوالع ، وانتعش بالبواده واللوامع. وهام بالمحادثات والمكالمات ، وكلّف بالمشاهدات والمحاضرات. وتاه في بيداء السحق والمحق. وانتقل إلى بقاع الجمع من حضيض الفرق. وشرب من عين الحياة ، واجتلى شموس الحقائق باهرة الآيات. واحتسى كؤوس المحبّة على بساط الوفاء ، ووقف لاجتلاء كعبة الأسرار على صفاء الصفاء.
نفع الله بمنّ هذه أوصافه ، وحيّا الله من اهتزّت لسماعها أعطافه. والله يجبر صدع من ردّ من الباب ، إلى ظلمة الحجاب. وحسده الشيطان في الدخول مع الأحباب واستنشاق نواسم الاقتراب. فهو متبع هواه. متردّ في مهواه. قد ردّ من أمره في الحافرة ، وآثر الدنيا على الآخرة. ونفسي بهذا أعني ، فما أجدرني ببكاء على الذنوب وحزني ، وعودي إلى التوبة التي تقرّب إلى الله وتدنّي ، وخروجي عن الدنيا التي لا تنفع طالبها ولا تغني.
رجع الحديث :
وطلبت من هذا الشيخ المبارك أن يعرّفني بشيخه الذي سلك على يديه ، واستند في حسن التربية إليه. فأعرض عن الجواب ، واشتغل بذكر رب الأرباب. فقنعت منه بالدعاء ، وفارقته مفارقة الظمآن للماء.
ثم إنه بعد ذلك أبل ، وعافاه الله عزه وجلّ ، فتشوّف لرؤية مولانا أمير المؤمنين أيّده الله ونصره ، وشكر في اعتنائه بالصالحين وردّه وصدره. فأخلى له مجلسه ، واستدعاه وأنسه. فلم يزد الشيخ على حمد الله والثناء عليه وانصرف إلى حلّه الذي اشتاق إليه ، وعاد إلى انقطاعه وتخلّيه ، والاشتغال بتحلّيه العائد بتجلّيه.
ولم يزل مولانا أيّده الله معتقدا فيه وفي أمثاله ، معتملا في الاهتمام بأهل الله تعالى أعظم اعتماله. فالله يثيبه وينفعه ، ويحيطه بالعمر الطويل ويمتعه بمنّه ويمنه.
فصل
وكان المقدّم شيخ الصوفية بهذه الزاوية المباركة عند خلاصها. ومتولى الإمامة بجامعها الأكرم المناسب لشرف اختصاصها الفقيه الصالح الزاهد أبا عبد الله محمد بن الفقيه الجليل المعظّم الأصيل رئيس المغرب وحسنة عصره المعجب به المغرب أبي محمد عبد