نعم على أهل المحبة سرّا والمراسلة خفيا قد أكلوا النعيم. فمشمشوه (١) ، وأيقظوا التفكر فقاربوه ، ورفعوا الحمام الطيب فمازجوه ، ثم أطرق مليا ، ثم رفع رأسه فقال : أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا؟ فقال : قهوة حمراء في زجاجة بيضاء ، تناولتها مقدودة هيفاء ، كوماء (٢) ، كحلاء ، أشربها من يدها وأمسح فمي بفمها.
فأطرق عند ذلك مليا تنحاز من عينيه عبرات متواليات [بلا](٣) شهيق ، فلما رأى الوصفاء ذلك تنحوا عنه فقال : أبا زيد حللت بيوم فيه انقضاء أجلك ، وتصرّم عمرك ، لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قبلك؟ أو لأضربن عنقك ، فقد أبديت مني مكتوما بوصفك ، وأعليت مني مستورا بنعتك ، فقلت : الأمان يا أمير المؤمنين ، قال : لك ذلك ، فقل ، فقلت : يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات يوم قاعد بباب سعيد بن عبد الملك إذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر تريد رحبة كالغزال الفالت من شبكة الصائد ، وعليها ثوب سكب (٤) إسكندراني ، يرى منه نور بدنها وطيّ عكنها ، ونقش تكتها ، وتدوير سرتها ؛ في رجلها نعل قد أشرق بياض قدمها على حمرة نعلها ، تفرد ذؤابة تضرب الحقو ، وعينان مملوءتان سحرا ، الغالب عليها الفتور ، بينهما أنف أقنى ، كأنه قصبة [درّ](٥) فوقه جناحان (٦) قد قوّسا على محاجر عينيها ، وطرّة كالحمم على متن جبينها وصدغان قد تعقربا ، نونان على صحن خدها ، وقفا كالعناقيد على سلتها ، شغلني عن صفة فمها ذهاب عقلي ، كأنه قمر غلام قد تبرق شاربه ، وهي تلون كلامها وتقول : عباد الله ، ما الدواء لما لا يشتكي؟ والعلاج لما لا يسمى؟ دام الحجاب وأبطأ الكتاب ، والنفس محتبس ، والروح مختلس ، والنفس واهية ، والأذن واعية ، سلم الله على قوم عاشوا تجلّدا وماتوا كمدا.
فقلت : سماوية أم أرضية ، أم جنية أم إنسية؟ فقد انتهى جمال خلقك ، وكمال عقلك وحسن منطقك ، فسترت وجهها بكمها ، وقالت : اعذر أيها القاعد ، فما أشد الوحشة بلا (٧)
__________________
(١) غير واضحة بالأصل ، والمثبت عن مختصر ابن منظور.
(٢) في العقد الفريد : مضمومة لفاء مكحولة دعجاء.
(٣) زيادة لازمة عن مختصر ابن منظور والعقد الفريد.
(٤) السكب : ضرب من الثياب رقيق.
(٥) زيادة عن مختصر ابن منظور.
(٦) كذا ، وفي المختصر والعقد الفريد : «حاجبان» وهو أشبه.
(٧) بالأصل : «ولا» والمثبت عن المختصر والعقد الفريد.