فإبراهيم الخليل كان يملك كمالاً بالقوة وهو ترك ما سوى الله في طريق أمره سبحانه ، ولكن هذا الكمال كان مكنوناً في ذاته ، مركوزاً في وجوده فأراد الله سبحانه إظهار ذلك الكمال وإبرازه من مكمن وجوده إلى ساحة الفعلية والتحقّق ، فأمره سبحانه بذبح الولد وهو قد أخذ بيد ولده وصار به إلى المذبح ، فأراد ذبحه امتثالاً لأمره سبحانه ، فأظهر بذلك أنّه يؤثر طاعته سبحانه على كل ما يملك من العواطف القلبية لولده العزيز ، فعند ذاك تفتح ذاك الكمال وصار إلى مرحلة الظهور ، وتحققت الغاية من أمره تعالى ، وجاء أمره سبحانه مخاطباً إيّاه ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (١).
فهناك حكمان على موضوعين مختلفين فالخليل المالك للكمال بالقوة مخاطب بذبح الولد ، والخليل الواصل إلى هذه الذروة من الكمال ، مخاطب بحكم آخر ، وهو التفدية عنه بذبح عظيم ، ولا يعد كل ناقضاً للآخر بل الاختلاف في الحكم أثر الاختلاف في الموضوع.
وعلى هذا الأساس تبيّن انّ اختلاف الحكم بالشفاعة في مورد العاصي من قبيل اختلاف الحكم حسب اختلاف الموضوع.
وتوضيح ذلك : انّ العاصي بما هو عاص وبما انّه مجرّد عن انضمام الشفاعة إليه ، محكوم بالعقاب ، ولكنّه بانضمام الشفاعة إليه ، محكوم بحكم آخر ، واختلاف الحكمين أثر اختلاف الموضوعين بالإطلاق والتقييد.
وإن شئت قلت : إنّ العاصي مجرداً عما يمر عليه في البرزخ من العذاب وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه ، ومجرداً عن دعاء الشفيع في حقه ،
__________________
(١) الصافات : ١٠٥ ـ ١٠٧.