أخبرنا التنوخي ، أخبرنا أبي ، حدثني أبي قال : سمعت أبي ينشد يوما ـ ولي إذ ذاك خمسة عشر سنة ـ بعض قصيدة دعبل الطويلة التي يفخر فيها باليمن ويعد مناقبهم ، ويرد على الكميت فيها فخره بنزار فأولها :
أفيقي من ملامك يا ظعينا |
|
كفاك اللوم مر الأربعينا |
وهي نحو ستمائة بيت ، فاشتهيت حفظها لما فيها من مفاخر اليمن أهلي ، فقلت له سيدي تخرجها لي حتى أحفظها ، فدافعني فألححت عليه فقال : كأني بك تأخذها فتحفظ منها خمسين بيتا ـ أو مائة بيت ـ ثم ترمي بالكتاب وتخلقه عليّ؟ فقلت : ادفعها إلىّ فأخرجها وسلمها إلىّ ، وقد كان كلامه أثر فيّ ، فدخلت حجرة لي كانت برسمي من داره فخلوت فيها ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيء غير حفظها ، فلما كان في السحر كنت قد فرغت من جميعها وأتقنتها ، فخرجت إليه غدوة على رسمي فجلست بين يديه فقال : هيه! كم حفظت من قصيدة دعبل؟ فقلت : قد حفظتها بأسرها ، فغضب وقد رآني قد كذبته وقال : هاتها ، فأخرجت الدفتر من كمي وفتحته فنظر فيه وأنا أنشد إلى أن مضيت في أكثر من مائة بيت فصفح منها عدة أوراق وقال : أنشد من هاهنا. فأنشدت مقدار مائة بيت أخر ، فصفح إلى أن قارب آخرها بمائة بيت ، وقال : أنشد من هاهنا ، فأنشدته من مائة بيت منها إلى آخرها ، فهاله ما رآه من حسن حفظي ، فضمني إليه وقبل رأسي وعيني وقال : الله يا بني لا تخبر بهذا أحدا فإني أخاف عليك العين.
وقال أيضا : حفّظني أبي وحفظت بعده من شعر أبي تمام والبحتري سوى ما كنت أحفظ لغيرهما من المحدثين والقدماء مائتي قصيدة ، قال : وكان أبي وشيوخنا بالشام يقولون : من حفظ للطائيين أربعين قصيدة ولم يقل الشعر فهو حمار في مسلاخ إنسان ، فقلت : الشعر وسني دون العشرين ، وبدأت بعمل مقصورتي ـ يعني التي أولها ـ :
لو لا التناهي لم أطع نهى النهى |
|
أي مدى يطلب من جاز المدى |
أخبرنا التنوخي ، حدثني أبي أن جدي مات بالبصرة في يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة ، ودفن من الغد في تربة اشتريت له بشارع المربد.