هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].
واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالا في كلامهم.
وقد اجتمع في الآية إيمان إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخبر أي علته وسببه ، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك ، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائما مقام التنصيص على العلة.
واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب ، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم ، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور ، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضا فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل. وكذلك القول في قوله : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ، وكرر فعل (يَلْعَنُهُمُ) مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) [الأحزاب : ٥٦] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن.
والتعريف في : (اللَّاعِنُونَ) للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن ، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة. ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧].
وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في (حوريب) حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين ، والعهد الذي أخذه عليهم في (مؤاب) وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه : «أنتم واقفون اليوم جميعكم أما الرب إلهكم ... لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب ... فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه ... حينئذ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة