واسم الإشارة عائد إلى الفتون المأخوذ من «فتنّا» كما يعود الضمير على المصدر في نحو (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، أي فتنّا بعضهم ببعض فتونا يرغب السامع في تشبيهه وتمثيله لتقريب كنهه فإذا رام المتكلّم أن يقرّبه له بطريقة التشبيه لم يجد له شبيها في غرائبه وفظاعته إلّا أن يشبّهه بنفسه إذ لا أعجب منه ، على حدّ قولهم : والسفاهة كاسمها.
وليس ثمّة إشارة إلى شيء متقدّم مغاير للمشبّه. وجيء باسم إشارة البعيد للدلالة على عظم المشار إليه. وقد تقدّم تفصيل مثل هذا التشبيه عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].
والمراد بالبعض المنصوب المشركون فهم المفتونون ، وبالبعض المجرور بالباء المؤمنون ، أي فتنّا عظماء المشركين في استمرار شركهم وشرك مقلّديهم بحال الفقراء من المؤمنين الخالصين كما دلّ عليه قوله : (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٣] فإنّ ذلك لا يقوله غير المشركين ، وكما يؤيّده قوله تعالى في تذييله (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
والقول يحتمل أن يكون قولا منهم في أنفسهم أو كلاما قالوه في ملئهم. وأيّا ما كان فهم لا يقولونه إلّا وقد اعتقدوا مضمونه ، فالقائلون (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) هم المشركون.
واللام في قوله : (لِيَقُولُوا) لام التعليل ، ومدخولها هو أثر العلّة دالّ عليها بعد طيّها على طريقة الإيجاز. والتقدير : فتنّاهم ليروا لأنفسهم شفوفا واستحقاقا للتقدّم في الفضائل اغترارا بحال الترفّه فيعجبوا كيف يدعى أنّ الله يمنّ بالهدى والفضل على ناس يرونهم أحطّ منهم ، وكيف يعدّونهم دونهم عند الله ، وهذا من الغرور والعجب الكاذب. ونظيره في طيّ العلّة والاقتصار على ذكر أثرها قول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقدمت والخطّيّ يخطر بيننا |
|
لأعلم من جبانها من شجاعها |
أي ليظهر الجبان والشجاع فأعلمهما.
والاستفهام مستعمل في التعجّب والإنكار ، كما هو في قوله (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) [القمر : ٢٥]. والإشارة مستعملة في التحقير أو التعجيب كما هي في قوله تعالى حكاية عن قول المشركين (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) في سورة الأنبياء [٣٦].
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوية الخبر.